28 يناير، 2013

التوظيف السياسي للموارد المائية.. مشروع نقل المياه بين تركيا وجمهورية قبرص الشمالية (التركية) أنموذجاً

الدكتور ريّان ذنون العبّاسيأستاذ مساعد/رئيس قسم الدراسات السياسية والإستراتيجية، مركز الدراسات الإقليمية تتـطلع تـركيا إلى تـحقيـق أول تـجربةٍ عـالميـة في مجـال نـقل المـياه لمسافاتٍ بعيدة تحت البحر المتوسط، هذا المشروع الذي أطلق عليه رجب طيب اردوغان Tayyıp Erdogan Reccp رئيس الوزراء التركي (2004- ) اسم (ماء السلام)، سيقوم بنقل -مياه الحياة- حسب وصفه، عبر الأنابيب لتزويد الجزء الشمالي من جزيرة قبرص أو ما يعرف بجمهورية قبرص الشمالية (التركية) ، والمعترف بها من قبل أنقرة فقط لغرض استخدام هذه المياه في الأغراض المنزلية والزراعية، بعدما عانت الجزيرة من ضائقةٍ مائيةٍ حادة جرّاء تعّرضها لموجات الجفاف التي اجتاحتها في السنوات الأخيرة الماضية.وكما هو معروف اقترحت تركيا مشاريع كثيرة لتزويد بلدان الخليج العربي والضفة الغربية (فلسطين) و(إسرائيل) ولبنان وليبيا والجزر اليونانية بالمياه، لكنها فشلت في الحصول على موافقتها من اجل إقامة هذه المشاريع، بسبب ما واجهته من مشاكل مالية وفنية وأخرى طبيعية تتعلق بالموقع المخصص لكل لمشروع مما أدى إلى صرف النظر عنها مؤقتاً.وجزيرة قبرص هي ثالث الجزر الكبيرة الواقعة في البحر المتوسط بعد جزيرتيّ صقلية وسردينيا بايطاليا، تبلغ مساحتها (251,9) كم، وتقع في الركن الشمالي للبحر المتوسط بين جنوب تركيا على بعد (80) كم وغرب سوريا على بعد (96) كم.يسود الجزيرة عموماً مناخ البحر المتوسط الذي يتصف على مدار السنة بكونه حار جاف في فصل الصيف ودافئ ممطر في فصل الشتاء، لذلك فإنها تعتمد مثل بقية البلدان الواقعة على ساحل البحر المتوسط على سقوط الأمطار بسبب انعدام وجود الأنهار وقلة استخدام وسائل الريّ والسدود الاروائية فيها.ما يهمنا من ذلك هو الحديث عن الجزء الشمالي من هذه الجزيرة والذي يعرف بجمهورية قبرص الشمالية (التركية) التي ظهرت إلى الوجود في 15 تشرين الثاني / نوفمبر 1983 على اثر التدخل العسكري الذي قامت به تركيا عام 1975 واحتلالها لهذا الجزء من الجزيرة.تبلغ مساحة هذه الجمهورية حوالي (335,3) كم2 وهو ما يشكّل ثلث المساحة الكلية لجزيرة قبرص تقريباً.في البداية كان لدى تركيا خطة أولية عن هذا المشروع تقضي ببناء مشروعٍ يعرف بسد (كايراك تبه) ومحطته الكهرومائية على نهر غوكصو الواقع بالقرب من قضاء موت التابع لمحافظة ايجل. إذ سيعمل هذا السد على توفير ما تحتاجه جمهورية قبرص الشمالية من المياه المخصصة للشرب والريّ معاً. أما محطته الكهرومائية فستقوم بإنتاج حوالي (998) مليون كيلو واط / ساعة سنوياً.وسرعان ما طرأ تعديل بسيط على هذا المشروع عندما اقترحت تركيا بناء سدٍ على نهر مانفغات الذي يصب في خليج الأناضول، من أجل العمل على خزن مياهه ومن ثم بيعها إلى الدول الواقعة على حوض البحر المتوسط منها الجزر اليونانية وقبرص، وليبيا، والضفة الغربية (فلسطين) ومصر و (إسرائيل). وقدرت كميات المياه التي خططت تركيا لبيعها حوالي (500) مليون م3في السنة، إلا أن الطريقة التي اقترحتها لنقل هذه المياه لم تكن بواسطة الأنابيب بل بواسطة استخدام البواخر التي ستصنع خصيصاً لهذا الغرض أو عن طريق استخدام بالونات مصنوعة من مادة البلاستيك.وبالفعل تقدمت شركة ميدوزا باج (Medusa Bag)بمقترحٍ لنقل هذه المياه وفق أسعارٍ معقولة تصل إلى (20,0) دولار أمريكي للمتر المكعب بما فيها تكاليف الاستخراج والنقل والربح الناجم عن رأس المال. إلا أن هذه التكلفة لم تكن مناسبةً للزراعة ولا للاستخدامين المنزلي والصناعي بالنسبة للدول الواقعة على السواحل كما هو الحال مع دول المغرب العربي وليبيا.ويمكن القول أن فكرة سحب المياه باستخدام البالونات جرى تطبيقها على ارض الواقع عندما تم نقل المياه من مدينة انطاليا الواقعة في جنوب غرب تركيا إلى جمهورية قبرص الشمالية عبر البحر المتوسط ، لكن العملية تعرضت إلى الفشل عدة مرات بالرغم من أن المسافة الفاصلة بين انطاليا وهذه الجمهورية هي أقرب بالمقارنة مع مثيلتها فيما يخص ميناء عسقلان في (فلسطين)، والسبب في ذلك هو تفجر البالونات المستخدمة حيث ثبت أنها فكرة غير قابلة للتطبيق من الناحية العملية. كما تقدمت شركة صفا دنيز (Sefa Deniz)التركية المتخصصة في النقل البحري بمـقترحٍ آخـر لحسـاب مـؤسسة الـمياه التركيـةDevlet Su İşleri Genel Müdürlüğü -D.S.Iحيث صممت مجموعة من القاطرات البحرية مع حاوياتها البلاستيكية على هيئة بالون لنقل المياه. وبعد أن ثبت عملياً فشل هذه التجربة بصورة متكررة تم الاستغناء عنها، لتطرح بعدها فكرة نقل المياه بواسطة ناقلات النفط القديمة شرط أن يعاد تنظيفها وصيانتها مرة ثانية، وتبين من خلال التطبيق العملي أيضاً أن هذه المياه ستكون ملوثة بملوثات المواد النفطية حتى ولو تم إعادة تنظيفها مرة أخرى.في الواقع أخذت فكرة نقل المياه من تركيا إلى شمال قبرص تتطور تدريجياً خصوصاً من قبل كبار السياسيين في البلاد أمثال رئيس الوزراء الحالي اردوغانالذي تبنى شخصياً هذه الفكرة عندما كان رئيساً لبلدية اسطنبول، ففي خطاب ألقاه في 8 آذار / مارس 2011 ذكر بان " هذه الطريقة التي تنفذ ولأول مرة على مستوى العالم سوف تتيح نقل المياه لمسافاتٍ بعيدة "، مضيفاً: " أن حلم الحكومات إيصال مياه الحياة إلى الأرض الخصبة في قبرص الشمالية. لقد كان ذلك الحلم الذي طالما راودني عندما كنت عمدة اسطنبول. ومن أجل تحقيق هذا الحلم فقد وحدنا الجهود من أجل الوصول إلى حل لمشكلة نقص إمدادات المياه في قبرص الشمالية ".وبموجب الاتفاقية الموقعة بين الجانبين التركي والقبرصي الشمالي التركي في 20 تموز/ يوليو 2010، فستتحمل الأولى تمويل المشروع المتوقع إكماله نهائياً في أربعة أعوام أي في منتصف عام 2014. وستتراوح تكاليفه بين (400-450) مليون دولار حسبما كان قد صرح به دور آلي ايلال المسؤول البيئي في جمهورية قبرص الشمالية. وهذا المبلغ يعادل (348) مليون يورو أي حوالي مليار و(100) مليون ليرة تركية. وكانت الحكومة التركية قد أطلقت في 31 آذار/ مارس 2012 اسم (ماء السلام) على هذا المشروع.أقسام المشروعيتكون المشروع المشترك من جزأين أساسيين الأول هو مشروع سد الاكوبرو (ALakopru Dam)الواقع في قضاء أنامور على نهر دراغون التابع لمرسين على البحر المتوسط، حيث قام اردوغان في 8 آذار / مارس 2011 بوضع حجر الأساس لهذا السد خلال حفل حضره عن الجانب التركي بشير اطلاي نائب رئيس الوزراء وفيصل ايراوغلو وزير البيئة والغابات، وعن قبرص الشمالية درويش اراوغلو رئيس الجمهورية وايرسين كوجوك رئيس الوزراء. وقال اردوغان في معرض رده على سؤالٍ لأحد الصحفيين أن هذا المشروع كان حلماً للعديد من الحكومات التركية، وكان هو يراه حلماً عندما كان رئيساً لبلدية اسطنبول، مضيفاً إن: " هذا المشروع إعلان للعالم كله أن تركيا لن تترك قبرص التركية وحيدة ". وتابع يقول: " إننا أطلقنا هذا المشروع لحل مشكلة المياه في قبرص الشمالية… انه مشروع كبير يليق بالأمة التركية، وسوف يلبي حاجة قبرص التركية للمياه المحرومة منها منذ 50 عاماً ".ووفقاً لما أعلنه فيصل ايراوغلو فان سد الاكوبرو يمثل الخطوة الأولى في إكمال بناء مشروع (مياه السلام) ، وهذا السد يعد الجزء الأهم والأطول في مشروع نقل الماء حيث من المؤمل الانتهاء منه في تشرين الثاني / نوفمبر 2014، فيما ستتولى حكومة قبرص الشمالية إنشاء سد جيشيتكوي الواقع قرب مدينة كيرينيا أو كيرنة القبرصية التركية حيث سيقوم بتزويد السكان بالماء العذب حسبما نص عليه الاتفاق الموقع بين البلدين.المواصفات الفنية للمشروع يتألف هذا المشروع من أنبوبٍ مصنوع من مادة البوليتيلين يمتد من الأراضي التركية حتى الجزء الشمالي من جزيرة قبرص. يبلغ قطره (6,1) م، بطولٍ يتراوح بين (107-110) كم، منها (78-80) كم طول الأنبوب البحري الذي سيقع على عمق (250) م تحت مياه البحر المتوسط. وسيقوم هذا الأنبوب بنقل حوالي (75) مليون م3من المياه الصالحة للشرب وأغراض الريً سنوياً، مع القيام كذلك بمد أنبوبٍ آخر موازٍ لنقل الطاقة الكهرومائية الرخيصة إلى جمهورية شمال قبرص أيضاً. وبذلك يكون هذا المشروع الأول من نوعه في العالم بحسب ما وصفه فيصل ايراوغلو وزير البيئة والغابات التركي الذي قال:" إن المياه سيتم إيصالها عبر خط أنابيب تحت سطح البحر المتوسط بطولٍ يزيد عن 107 كيلومترات، ما سيمكن من تلبية احتياجات الشطر التركي من المياه العذبة لأكثر من 50 عاماً ".أهدافهمن المتوقع أن يقدم هذا المشروع فوائد جمة لكلٍ من تركيا وجمهورية قبرص الشمالية فخط أنابيبه البري والبحري يعّد أحدث محاولةٍ تجريها تركيا للقضاء على نقص المياه المزمن في جزيرة قبرص وهذا الشيء يحسب لها كونها تريد أن تبرهن للعالم على قدرتها في العمل على استخدام التكنولوجيا الحديثة والهندسة المتطورة في انجاز هذا المشروع عندما تنجح في النهاية من تشييده وهو أمر أكده رئيس الوزراء التركي اردوغان بقوله: " إن هذا المشروع لن يقتصر على تزويد قبرص الشمالية بالمياه، إننا سوف نستفيد من سد الاكوبرو في إنتاج الطاقة الكهربائية ، بالإضافة إلى أن هذا السد سوف يعمل على إرواء أراضٍ بمساحة قدرها (293,3) هكتار في انامور".وتبرز أهمية المشروع في كونه يحقق أهدافاً اقتصادية كثيرة للطرفين أهمها:1- سينقل خط الأنابيب سنوياً كمية مقدارها (75) مليون م3من المياه الصالحة للشرب حيث سيستفاد منها حوالي (750) ألف شخص ، وستنطلق تلك المياه من سد الاكوبرو في مرسين جنوب تركيا لتجري عبر مياه البحر المتوسط باتجاه سد جيشيتكوي غرب كيرينيا. وبحسب ما هو مخطط فان هذه المياه سيتم اقتسامها بين (15) مليون م3كمياه للشرب، و (60) مليون م3 ستخصص لأغراض الريّ.2- سيساهم المشروع كذلك في أعمال سقي المزروعات وريّ الحقول الزراعية.3- والى جانب هذا الأنبوب سوف يمد أنبوب آخر موازٍ لنقل الطاقة الكهربائية الرخيصة التي تحتاجها جمهورية قبرص الشمالية.وبقيام تركيا بتزويد الجانب القبرصي الشمالي بحوالي (75) مليون م3من المياه العذبة سنوياً، فهذا يعني أن الجزيرة سوف يطرأ عليها تغيير كبير في بيئتها الطبيعية كونها ستصبح أجمل مما هو عليه الان، بسبب انخفاض نطاق تأثير موجات الجفاف الذي سيسببها أو يؤثر عليها البحر المتوسط، على السكان المحليين في قبرص الشمالية المعروف عنهم اشتغالهم بالأعمال الزراعية والسياحية، لذا فان كلا القطاعين سوف ينعمان بالاستفادة من ذلك، الأمر الذي سيزيد من مستويات التطور الطبيعي للمنطقة، وهو ما أشار إليه وزير البيئة والغابات فيصل ايراوغلو بقوله إن المشروع سوف يلبي الاحتياجات المائية الكافية لجمهورية قبرص الشمالية لمدة 50 عاماً. فضلا عن وجود مشروعٍ آخر لتزويدها بالطاقة الكهربائية الرخيصة. هذا فيما يخص الأهداف المباشرة للمشروع.أما الأهداف غير المباشرة فهي ما تزال غير ظاهرة للعيان. فمن المعروف أن الجزء الجنوبي من جزيرة قبرص لا يزال يحصل على احتياجاته المائية من اليونان بواسطة البواخر تارة أو عن طريق استقبال واردات طارئة من المياه التي تنقلها الشاحنات القادمة من الأراضي اليونانية تارةً أخرى. وقد وضعت الحكومة القبرصية المعترف بها من جانب اليونان خطةً لاستيراد (8) ملايين م3من المياه للفترة من تموز / يوليو إلى تشرين الثاني / نوفمبر 2008 ، ولهذا السبب فقد أعلن محمد علي طلعت أحد الزعماء السياسيين في قبرص الشمالية في 19 تموز/ يوليو من العام نفسه، إن إدارته التي لا تعترف بها سوى أنقرة اقترحت تزويد قبرص اليونانية (جنوب) بالمياه مستقبلاً، وذلك عن طريق الأنبوب التركي المسمى (مياه السلام) مؤكداً عدم حصول حكومته على موافقةٍ نهائية بذلك قائلاً:" لم نحصل بعد على جواب على عرضنا ". كما أوضح دورآلي ايلال المسؤول البيئي في حكومة قبرص الشمالية أن خط الأنابيب يمكن أن يؤمن احتياجات قبرص التركية من المياه بسهولة، إذ أشار: " إذا استدعت الحاجة يمكننا أن نزود المياه لجيراننا أيضاً بما في ذلك جنوب قبرص".نص المقالة منشورة في نشرة تحليلات استراتيجية العدد 75 في ايلول 2012

مشاركة الخبر