30 سبتمبر، 2012
بانوراما المتغيرات في العراق المعاصر ونتائجها
أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل
شهد العراق، منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وإدارية،عديدة، لعل من أبرزها تنامي الوعي القومي، وتزايد عدد المثقفين، بسبب انتشار التعليم الرسمي الحديث، وازدهار الحياة الحزبية، وتصاعد دور الطباعة والصحافة. وبعد ثورة 1920 العراقية الكبرى، وتشكيل الدولة العراقية الحديثة سنة 1921، وبسبب بعض التطور الاقتصادي والاجتماعي نتيجة عوامل عديدة داخلية وخارجية،ظهر عدد من التنظيمات السياسية والاجتماعية والثقافية التي أكدت أهمية التغيير، وتحقيق فكرة التقدم والرفاهية. لكن هذه الحركة لم تتسع، إلا في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، وثمة من يشير إلى الدور المتميز الذي قامت به الطبقة الوسطى العراقية (البرجوازية)، وشريحة المثقفين من ضمنها في الدعوة إلى تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن المطالب المشروعة في تعزيز حركة الاستقلال، وإفساح المجال للفئات والشرائح الاجتماعية المحرومة لكي تنال حقوقها، وتعبر عن تطلعاتها. وقد بلغ أثر هذه الحركة، وتلك الدعوات ذروتها في ثورة 14 تموز 1958،ومارافق ذلك من تصاعد دور اليسار الوطني، و القومي، والاشتراكي نتيجة تنامي دور العمال والطلبة والفقراء عموماً وانتشارهم في المدن، ومااحدثه ذلك من تناقض في مستويات المعيشة بين أقلية غنية حاكمة، وأكثرية فقيرة بعيدة عن دوائر صنع القرار.
وترى الدكتورة فيب مار في كتابها:"تاريخ العراق المعاصر..العهد الملكي"، وهي أستاذة أمريكية متخصصة في تاريخ العراق المعاصر، أن احد ابرز التطورات المؤثرة في الخمسينات من القرن الماضي، هو قيام نهضة في الأدب والفن.
ويقينا أن مما لم تذكره (فيب مار) أن لهذه النهضة جذور ترجع إلى أواسط العشرينات، حيث شهدنا ظهور تجمعات ثقافية وسياسية كان لها دورها، وقد تعاظم دور هذه التجمعات في الثلاثينات والأربعينات ولعل من ابرز هذه التجمعات، جماعة الصحيفة (1924) وجماعة مجلة المجلة (1938) وماتبعها من تجمعات اخرى .
لقد ازدهرت القصة القصيرة لأول مرة، وظهر الشعر الحر، وأنتج الشريط السينمائي (الفيلم)، وبدأ العراقيون يعرفون قيمة الرسم والنحت، وظهرت مدارس فنية وفكرية عراقية متميزة وخاصة في مجالي الفن التشكيلي والعمارة . ومما يلحظ في هذا الصدد أن التأثير الأوربي، وان كان واضحاً في ماحدث من أشكال فنية وأدبية جديدة، إلا أن محتوى الأدب، والفكر، والفن، ظل وطنيا،وقوميا،وإنسانيا . هذا فضلا عن أن ذلك عكس المتغيرات والتطورات التي رافقت انتقال المجتمع العراقي من مجتمع منغلق تقليدي إلى مجتمع مفتوح حديث. وقد اتسمت أعمال الأدباء والمفكرين والكتاب والنقاد والفنانين العراقيين بالكثير من القلق إزاء الحاجة إلى التغيير، والإحباط من بطئه. ولا ننسى أن تلك الأعمال حاولت، بشكل وبأخر، تأكيد الهوية الوطنية العراقية باجلى مظاهرها.
كتب الدكتور عبدالاله احمد (1940-2007) عن التطور الذي حدث في مجال الأدب القصصي،وراح يوسف الصائغ (1933-2005) يبحث في جذور وأبعاد وطبيعة الشعر الحر في العراق، ولم يقف الدكتور حسين علي محفوظ (1926-2009) عند الفكر والأدب، بل زاد على ذلك بالإقدام على تأصيل المعرفة العربية والإسلامية .
وانصرف الدكتور عبد الواحد لؤلؤة (1931- ) إلى الترجمة ساعيا إلى إرساء أسس مدرسة عراقية للترجمة. ولم يختلف دور المؤرخين العراقيين عن غيرهم في الإتيان بكل ما يعزز منهج البحث التاريخي ودعائم المدرسة التاريخية العراقية، وظهر عندنا نقاد متميزون، ورواد في مجال الرواية وأساتذة أكاديميون أرخوا لبعض جوانب الأدب والفن والنقد والخط والتحقيق التراثي والدراسات القرآنية واللغوية والبلاغية.
وجاء جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ليعكس المتغيرات التي شهدها العراق في المجالات كافة. وكانت المدرسة العراقية من نتاج هذه المرحلة، حيث ارتفعت مكانة الكلمة، وازدادت الدعوة إلى الحرية، وتعززت قيمة المرأة، وكان ذو النون أيوب (1908-1988) وعبد الملك نوري (1921- ) وفؤاد التكرلي (1927-2007) وسافرة جميل حافظ (1931_) وصبيحة الشيخ داؤد (1915-1975) وبدرشاكرالسياب (1926-1964)، ونازك الملائكة (1923-2008 ) وعبد الوهاب ألبياتي (1926-1999)، ومحمود المحروق(1931-1995)وشاذل طاقة (1929-1974) وعبدالرزاق عبد الواحد (1930_) وعبد الخالق الركابي (1946 ) ،وجمعة اللامي (1948 ) ، ومن قبلهم جميل صدقي الزهاوي(1863-1936) ومعروف عبد الغني الرصافي(1875_1945) ومحمد بهجت الأثري(1902-1996) ومحمود شكري الالوسي(1857-1924) وجلال الحنفي (1914-2006) وغيرهم من أبرز المعبرين عن هموم الإنسان العراقي وتطلعاته في الحياة الحرة الكريمة، وظهر هذا واضحا ليس في نصوصهم الإبداعية شعراً ونثراً فحسب، بل في سلوكهم اليومي، لذلك كثيرا ماواجهوا العنف والعنت والاضطهاد من السلطات الحاكمة.
وأخذت المدرسة العراقية في السينما والمسرح طريقها إلى الازدهار، وتميزت سينما ومسرح يوسف العاني بالواقعية وخاصة في التعبير عن الظلم والاضطهاد الذي كان الإنسان العراقي، يواجهه رجلاً كان أو امرأة، من الحاكم والمجتمع . ولا يمكن أن نتغافل عن الدور المهم الذي قام به جواد سليم (1920-1961) ، وفائق حسن (1914-1992) ،وحافظ ألدروبي (1914-1930) ونجيب يونس (1930-2007) وغيرهم على صعيد النحت والفن بعين نافذة، وظهرت مجلات ثقافية لايمكن تجاهل دورها في مجال صياغة التوجهات السياسية والفكرية والثقافية والفلسفية للعراقيين أو على الأقل لشريحة المثقفين منهم ومن هذه المجلات، (مجلة الثقافة الجديدة)و(مجلة الأقلام). ومن المؤكد أن المؤرخ العراقي الحصيف لايمكن أن يظل بعيداً عن تسجيل وتوثيق كل جوانب التاريخ الثقافي العراقي المعاصر، لذلك حاولت ومنذ فترة طويلة الاهتمام بذلك.*
*مقدمة كتابي :تاريخ العراق الثقافي المعاصر ،دار ابن الأثير للطباعة والنشر –جامعة الموصل ,الموصل 2010