19 نوفمبر، 2012
سياسة تركيا الخارجية تجاه منطقة القوقاز
كان من ابرز واهم الأحداث التي شهدها العالم المعاصر في نهاية القرن العشرين هو انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي والذي كان احد طرفي التنافس والصراع فيما عرف بـ""الحرب الباردة ".لقد كان من نتائج تفكك الاتحاد السوفيتي تغير موازين القوى لصالح الولايات المتحدة الأمريكية ، وظهور كيانات وجمهوريات وخرائط سياسية جديدة في آسيا ، وقد أصبحت هـذه الجمهوريات المستقلة حديثا وخاصة دول أسيا الوسطى ومنطقة القوقاز محط أنظار الدول القريبة والبعيدة ،نظرا لما تتمتع به من ميزات جغرافية واقتصادية.وانطلاقا من الأهمية الجغرافية والاقتصادية والإستراتيجية التي تتمتع بها منطقة القوقاز فقد أصبحت مجالا للتنافس والصراع، وكسب النفوذ لدول المنطقة ومنها تركيا والدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وعليه ركزت تركيا من اهتمامها بهذه المنطقة وبجمهورياتها منذ عام 1991 .وبناءا على الأهمية التي حظيت بها منطقة القوقاز وما أفرزته من تنافس وصراع سواءً على مستوى دول القوقاز نفسها أو الدول المجاورة لها ، يحاول هذا المقال التركيز على دور تركيا وسياستها تجاه منطقة القوقاز، باعتبارها احد أطراف هذا التنافس في هذه المنطقة المهمة ، وكدولة مجاورة لهذا الإقليم ودوله، وبلا شك إن أي أحداث أو متغيرات تشهدها هذه المنطقة ودولها ينعكس بصورة مباشرة على تركيا كونها مجاورة لكل من أرمينيا وجورجيا وأذربيجان ، وهذه الدول سوف تكون محور التوجه التركي في هذا البحث .اعتمدت تركيا ومنذ تسلم حزب العدالة والتنمية لمقاليد السلطة في الثالث مــن تشرين الثاني / نوفمبر عام 2002 ، علـى مبدأ ( المبادرة الدبلوماسية ) فـي سياسـتها الخارجية، وانتقلت إلى سياسة المبادرة في معالجة الإحداث والمشاكل وليس الاكتفاء بإهمالها ، وقـد أشار الرئيس التركي عبد الله غول إلى هذا المعنى بالقول " إن تركيا لا يمكن أن تبقى محصورة داخل الأناضول ، ففي ظل التحولات الإقليمية والدولية الخطيرة ، يصبح مـن الخطأ أن تبقى أنقرة متفرجة على ما يجري حولها ، وهي جزء يتأثر بما يجري فـي محيطها وتؤثر به " ، وكثيرا ما كان رئيس الحكومة التركية رجب طيب ارودغان يقول: " إنّ تركيا لا يمكن أن تجلس في المدرجات وتتفرج على اللعبة بل يجب أن تكون لاعبا على ارض الملعب "، وقد كانت منطقة القوقاز إحدى مجالات السياسة التركية هذه . من هذا المنطلق بنت تركيا سياستها الخارجية في عهد حزب العدالة والتنمية على أسس ومبادئ أهمها :1-التوازن بين الأمن والديمقراطية أو الحرية ، إذ حاولت تركيا منذ عام 2002 نشر وترويج مبدأ الحريات المدني دون التفريط بالأمن .2- السير وفق مبدأ ( تصفير المشاكل ) مع الدول المجاورة لها وبناء علاقات أكثر انسجاماً وتعاوناً مع تلك الدول .3- الاعتماد على مبدأ أهمية توفير الأمن للجميع ، وإقامة منطقة مستقرة خالية من المشاكل التي تؤثر في استقرارها وتدفع باتجاه زعزعة أمنها واستقرارها ، واتبعت في ذلك سياسة الحوار السياسي والتعاون الاقتصادي والتعايش الثقافي المتعدد .4-إتباعها تعدد الأبعاد في التعامل السياسي، وإقامة علاقات مع دول ذات تأثير في الساحة الدولية وعدم حصرها بجهة واحدة، وجعل هذا التعامل أساساً للتعاون والتكامل لا للتنافس .5-سارت تركيا في سياستها الخارجية وخاصة بعد عـام 2003 وفـق مبدأ وسياسة "الدبلوماسية المتناغمة " وتغير أداؤها الدبلوماسي وفقا لهذا المبدأ،وأصبحت ذات حضور في استضافة وحضور المؤتمرات الدولية .6- والعمل وفـق مفهوم الدولة المؤثرة القادرة على معالجة الأحداث والإشكاليات والتواصل من خلال طرح الأفكار والحلول في المحيط الإقليمي والعالمي.وعليه أخذت تركيا بتوسيع نفوذها واستثماراتها في منـطقة جنوب القوقاز وعلى الصعيدين السياسي والاقتصادي منذ عام 2003 ، وكان التحدي الأكبر لها فـي هذا الجانب هو العلاقات مع أرمينيا ، ومع ذلك سعت حكومة حزب العـدالة والتنمية إلى تعزيز مكانها في المنطقة كقوة إقليمية .بلا شك إنّ عامل الاستقرار والتطور والازدهار والتعاون فـي علاقات تركيا السياسية والاقتصادية فـي منطقة جنوب القوقاز ، هو أمر على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لتركيا، وعليه سعت تركيا فـــي إتباع سياسة الانفتاح والتقارب إزاء دول المنطقة من اجل تعزيز نفوذها ومصالحها إلى ابعد مدى ممكن ، والعمل مــن اجل تحقيق السلام والاستقرار في محيطها الإقليمي وبضمنها منطقة القوقاز، التي حرصت تركيا إبان العشر سنوات الماضية على العمل على أن تكون هذه المنطقة عـلى اكبر قدر من الاستقرار الذي يشجع على تأمين استمرار تدفق إمدادات الطاقة مـن هـذه المنطقة وعبر تركيا، التي تطمح أن تكون مركزاً مهما لتصدير الطاقة. وعليه فــان ضمان الاستقرار الدائم لمنطقة القوقاز أصبح مــــن أولويات واهتمامات السياسة الخارجية التركية وأحد استراتيجياتها.لقد كان تفكك الاتحاد السوفيتي واستقلال العديد من جمهورياته (خمس دول منها ذات أصول تركية)، قد مثل فرصة كبيرة لتركيا، إذ فتح أمامها مجالاً جديداً وواسعًا من العلاقات مع هذه الدول، وفي الوقت نفسه فإن هذه التطورات كسرت حاجز العزلة عن تركيا وجعلتها تستعيد مرة أخرى أهميتها الجيوسياسية والإستراتيجية.وطوال الفترة 1991-1995 سعت تركيا إلى تقديم أنموذجها كدولة علمانية ديمقراطية إلى تلك الدول، بل ومنحتها الهبات والقروض وقدمت لها وعوداً لم يستطع الاقتصاد التركي الضعيف آنذاك الوفاء بها، وبالرغم من ذلك فيحسب لهذه الفترة أن تركيا أقدمت على تحويل علاقاتها مع تلك الدول إلى الإطار المؤسساتي فدشنت العديد من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية التي لا تزال تعمل حتى الآن. لكن روسيا وطوال الفترة من 1995 وحتى 2002 شعرت بأن تركيا أصبحت "منافسا" جدياً لها ومهدداً لمصالحها في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، فكان من نتائج ذلك أن اتسمت علاقة تركيا بتلك الدول عموماً بفترات من الشد والجذب سيطر عليها أجواء من عدم الاستقرار إلى أن جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. وقد غيرت تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 من نهج تعاملها مع منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، فعوضاً عن التنافس والصراع على المصالح والنفوذ اتبعت أنقره فلسفة التعاون والشراكة وقدمت نفسها على أنها الدولة الحريصة على الأمن والاستقرار، وبدأت العلاقات بين تركيا وجمهوريات القوقاز أو آسيا الوسطى تشهد تحسنا ملحوظاً، والسبب في ذلك يعود إلى أن فلسفة الحزب في تعامله مع دول المنطقة، فعوضاً عن النظر إليها على أنها "منافس" أصبحت تتعامل معها على أنها "شريك" ،آخذة بعين الاعتبار معطيات الجوار الجغرافي والقومي والاقتصادي وارتباط المصالح.ولتكتمل دائرة تحسين العلاقات بين تركيا والقوقاز سعت الدبلوماسية التركية من اجل استئناف علاقاتها مع أرمينيا، وتجاوز العقد التاريخية التي تحول دون ذلك، ولتحقيق هذا الهدف التقى بعض مسؤولي البلدين وبحثوا في إمكانية استئناف العلاقات بينهما، فضلاً عن الزيارات المتبادلة على أعلى المستويات بين البلدين، حتى توصل الجانبان إلى التوقيع على اتفاق التطبيع بينها في 10 تشرين الأول/اكتوبر2009، لكن قضية ناكورنو كارباخ حالت دون مصادقة برلمانيي البلدين عليه.إنّ تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا يكتسب أهمية كبيرة من زاوية علاقات تركيا بأذربيجان وكذلك علاقات أذربيجان بأرمينيا،وتبقى مسألة تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا تراوح مكانها إذا لم تحل المشاكل العالقة في العلاقات بين أذربيجان وأرمينيا وذلك بسبب مشكلة ناكورنو كرباخ المتنازع عليها بين الطرفين. وفي هذا السياق فإن تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا يجب أن يتحقق بالتوازي مع مسار أذربيجان وأرمينيا ، بل إن الشروع في تحريك المسار التركي الأرمني ينبغي أن يشمل أذربيجان ، لتحسين الأجواء الإقليمية وتجاوز النزاعات القائمة.كما طرحت تركيا إقامة "منتدى الاستقرار والتعاون في القوقاز" في أعقاب الحرب الروسية الجورجية في آب/أغسطس 2008 على خلفية الاجتياح الجورجي لأوسيتيا الجنوبية، في محاولة منها لجمع دول القوقاز وحل المشاكل القائمة بينها ، وإعادة الأمن والاستقرار إلى هذه المنطقة الحيوية والإستراتيجية بالنسبة لتركيا التي تحرص على تأمين استمرار تدفق إمدادات الطاقة من منطقة القوقاز واسيا الوسطى عبر أراضيها إلى أوربا وبقية الأسواق العالمية.وفي هذا الإطار فإن خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان الهادف إلى نقل بترول أذربيجان وربما كذلك بترول آسيا الوسطى وبشكل خاص كازاخستان عبر جورجيا إلى ميناء جيهان التركي الواقع على البحر الأبيض المتوسط بطول 1776 كلم يشكل أهمية بالغة بالنسبة لتركيا والغرب على السواء، ذلك أن المشروع المذكور يشكل أول مرحلة من مراحل تحول تركيا إلى أن تكون جسرا للطاقة وممرا لها بين الشرق والغرب. وهذا الخط سوف يزيد من الأهمية الجيوسياسية والجيوإستراتيجية لتركيا، كما أنه في الوقت نفسه يكتسي أهمية بالغة في الحفاظ على الاستقرار السياسي في مناطق القوقاز. ومن هذا المنطلق أدخلت تركيا في عهد العدالة والتنمية روسيا شريكا في مشروع خط أنابيب نابوكو الهادف إلى نقل الغاز الطبيعي من تركمانستان عبر بحر قزوين (صاحبة رابع أكبر احتياطي للغاز في العالم) إلى أذربيجان ومنها إلى تركيا الذي سيصل بدوره إلى وسط أوروبا بعد أن كان هذا المشروع قد صمم في الأساس لتجاوز روسيا وعزلها وفق الإستراتيجية الغرب.نشرت هذه المقالة في نشرة في الراصد الإقليمي العدد (55) كانون الثاني 2012، مركز الدراسات الاقليمية -جامعة الموصل