18 سبتمبر، 2012
عقيدة الحرب الإستباقية في الإستراتيجية الأمريكية
عقيدة الحرب الإستباقية في الإستراتيجية الأمريكية
واثق محمد براك السعدون
قسم الدراسات السياسية والإستراتيجية
مركز الدراسات الإقليمية
جامعة الموصل
بعد انتهاء الحرب الباردة، كان على الحكومات الأمريكية التي عاصرت أو أعقبت هذا الحدث أن تعيد النظر في سياستها الخارجية وسياسة الأمن القومي، على ضوء إنها باتت القوة العظمى الوحيدة في العالم أجمع. ولم تكن إعادة النظر تلك مهمة سهلة؛ بانعدام وجود تهديد حقيقي وواضح للأمن القومي الأمريكي، يحشد تأييد القوى الشعبية، ويحتم وقوفها صفاً واحداً، ويتطلب انتهاج مبادئ واضحة لمواجهته. فانطلق التخطيط الإستراتيجي العسكري الأمريكي من فرضية وجود مصادر جديدة للتهديد، كاحتمالية صعود قوة عظمى جديدة (قد تكون الصين أو روسيا أو اليابان أو ألمانيا)، أو تصرفات عدوانية من بعض القوى الإقليمية، أو انتشار أسلحة الدمار الشامل، أو الإرهاب، أو تجارة المخدرات. ومن بين "المرشحين" الكثيرين لتهديد الولايات المتحدة الأمريكية، اصطنع منذ مطلع التسعينات عدو جديد بهيئة " الدول الخارجة على القانون" أو "دول محور الشر" كالعراق وكوريا الشمالية وإيران وسوريا وليبيا على سبيل المثال. لقد غير انتهاء الحرب الباردة كل التوازنات، إذ لم تعد هناك حاجة لإيجاد القوة الكافية لخدمة الأهداف الأمريكية، بل على العكس، إيجاد أهداف لاستخدام القوة الأمريكية من اجلها، ودفع ظهور هذه الحاجة الجديدة إلى البحث عن غايات وأهداف جديدة لتبرير استمرار الدور الأمريكي في الشؤون الدولية بصورة توازي دورها إبان الحرب الباردة.
عقب هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن، تخلت إدارة الرئيس الأمريكي جورج واكر (دبيلو) بوش ( George Walker Bush 2001- 2009) عن عقيدتي (الردع) و(الاحتواء المزدوج)، واللتان كانتا الأساس الذي تبنى عليه الإستراتيجيات العسكرية، منذ تأسس وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في 1947، وطوال السنين التي سبقت أحداث أيلول 2001، إذ تبنت إدارة الرئيس بوش (الابن) عقيدة (الحرب الإستباقية)؛ كما يتضح من الحرب ضد طالبان في أفغانستان 2001، والحرب على العراق 2003. ومبدأ هذه الإستراتيجية يتمحور حول التحول من صد هجوم فعلي إلى شن حروب وضربات وقائية لمنع هجمات متوقعة. لقد أحدثت هجمات أيلول 2001 تحولاً كبيراً في التصورات الأمنية لمختلف دول العالم، فضلاً عن تغييرها لمعالم النظام العالمي.
في الأول من حزيران 2002، قدم الرئيس بوش العقيدة العسكرية الجديدة أمام حفل تخرج الدفعة (908) من ضباط أكاديمية (ويست بوينت West Point) العسكرية الأمريكية، حين قال" إن الردع لا يفعل شيئاً ضد خلايا إرهابية غير مرئية تعمل كالأشباح، ليس لها وطن محدد، ولا مواطنون مسؤولة عن حمايتهم". وشرح مضامين الإستراتيجية التي سوف تستلهمها إدارته من تلك العقيدة. وهي تشمل إعادة نظر صريحة في مبادئ السياسة الدفاعية التي كانت تعمل بموجبها الولايات المتحدة، مع ما يترتب على ذلك من نتائج كبيرة في قيادة السياسة الخارجية وتنظيم القوات المسلحة وقيادتها وعقيدة استخدامها. فإن المخاطر التي على أمريكا مواجهتها(بحسب وجهة نظر الرئيس بوش الابن)، تأتي من مجموعات إرهابية دولية، ومن دول تتساهل معها وتأويها أو تدعمها، وأيضا من هؤلاء الذين يملكون أسلحة الدمار الشامل أو الذين يتزودون بها أو يستعدون لإنتاجها. وبما إن هذه المخاطر قد تغيرت في مصدرها وطبيعتها فإن على الرد أن يتغير أيضا في صورة كاملة. وأكد الرئيس انه يجب على الولايات المتحدة أن لا تقبل إطلاقا بأن يتمكن أعداؤها الجدد من أن يوجهوا إليها أو إلى حلفائها ضربة مشابهة لتلك التي حصلت في 11 أيلول 2001، ولا حتى القبول باحتمال تنظيم هجمات ضد السفارات والوحدات البحرية أو القواعد الأمريكية. فأعلن أن إستراتيجية واشنطن ستهدف إلى منع تجسيد هذه المخاطر من خلال إطلاق "ضربات وقائية" ضد أعدائها المحتملين.
إن فكرة الحرب الإستباقية أو (الوقائية) ليست جديدة على التخطيط الإستراتيجي الأمريكي، إذ نشأت منذ عهد الرئيس كلينتون، ولكنها وجدت طريقها للتطبيق العملي في عهد الرئيس بوش الابن. فقد ذكر وليام ج. بيري وزير الدفاع في عهد كلينتون، في كتابه (الدفاع الوقائي) "يمكن ترتيب المخاطر التي تهدد الأمن الأمريكي (بحسب الفكر الإستراتيجي) إلى: النوع (أ) والتي تشمل المخاطر التي تهدد وجود الولايات المتحدة الأمريكية، كالتهديد الذي مثله الإتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، والنوع (ب) والتي تشمل المخاطر التي تشكل تهديداً للمصالح الأمريكية، لكنها لا تمثل تهديداً للوجود الأمريكي أو طريقة الحياة الأمريكية، كالأزمات المتكررة في الخليج العربي وشبه الجزيرة الكورية، والتي تمثل أساس التخطيط والميزانية لدى البنتاغون، والنوع (ج) وهي الأحداث المهمة التي تؤثر في أمن الولايات المتحدة بشكل غير مباشر، كما إنها لا تهدد المصالح الأمريكية تهديداً مباشراً، مثل كوسوفا والبوسنة والصومال ورواندا وهاييتي". و"الإستراتيجية الوقائية هي إستراتيجية دفاعية للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين، تركز الاهتمام على الأخطار التي إذا ما أسيئت إدارتها يمكن أن تتحول إلى أخطار من النوع(أ) التي تهدد الوجود الأمريكي في السنوات القادمة، وهي ليست تهديدات آنية ينبغي دحرها أو ردعها، بل مخاطر محتملة يمكن منعها والوقاية منها". و"إن الدفاع الوقائي، باعتباره دليلاً هادياً لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، يختلف عن الردع اختلافاً جوهرياً؛ فهو إستراتيجية سياسية عسكرية واسعة، تعتمد على كل أدوات السياسة الخارجية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولكن لوزارة الدفاع الدور المحوري فيها".
شكلت إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية والتي أعدت من قبل إدارة بوش وجرى تعميمها في شهر أيلول 2002 قلقاً شديداً على إطار العمل الأساسي للقانون الدولي الذي يحكم العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية( بالرغم من ضعفه)، كما إنها قد شرعت مذهب الهيمنة العالمية من جانب الولايات المتحدة، وأحيت مفاهيم الحرب الاستباقية، والنزعة الأحادية، وتغيير الأنظمة. إذ جاء في هذه الإستراتيجية: "وكشعور مشترك ودفاعاً عن النفس ستتصرف أمريكا ضد هذه التهديدات الظاهرة قبل أن يكتمل تكوينها، نحن لا نستطيع أن ندافع عن أمريكا وعن أصدقائنا بالتطلع نحو الأفضل، لذلك يجب أن نستعد للتغلب على خطط أعدائنا مستخدمين استخباراتنا وإجراءاتنا بالتشاور، فالتاريخ سوف يحكم بقسوة على أولئك الذين شاهدوا هذا الخطر قادماً وفشلوا في التصدي له"، و "إن الولايات المتحدة تسيطر على مكامن التأثير في العالم محاطة بالإيمان بمبادئ الحرية وقيمة المجتمع الحر. أن موقع الولايات المتحدة في هذا المكان يجعل بالإمكان أن تسخر قواها من اجل ترقية موضوع الموازنة في القوى المُطَعّْمْ بالحرية"، و " إن الولايات المتحدة الأمريكية تقاتل حرباً ضروس ضد الإرهاب عبر العالم بأسره، إن العدو ليس نظاما سياسياً واحدا ومحدداً أو شخصاً بعينه أو ديناً أو إيديولوجية معينة"، و " أن الصراع والحرب ضد الإرهاب مختلف تماما عن أي صراع خضناه في تأريخنا. حرب سوف يتم الخوض فيها على عدة جبهات موجهة ضد عدو ذي طبيعة أشبه بالسراب وعلى مدى زمن طويل"، و "أن أولوياتنا هو تمزيق وتحطيم المنظمات الإرهابية التي هي في أصقاع متعددة من العالم، ومهاجمة قادتها وقياداتها، و ونظم السيطرة الاتصالات، وأساليب الدعم المادية والمالية لها"، و " سنقوم بعمل مباشر ومستمر باستخدام كافة عناصر القوة القومية والدولية. وان التركيز المباشر سيكون على المنظمات الإرهابية التي في مرمى دولي، أو في أية دولة تدعم وتمول الإرهاب، أو تلك التي تحاول استخدام أسلحة التدمير الشامل أو تعقد النية لذلك"، و "إن الدفاع عن الولايات المتحدة والشعب الأمريكي وعن مصالحنا في الداخل والخارج تتحقق من خلال التعرف على الخطر وتحطيمه قبل أن يصل حدودنا"، و " إن مصدر قوتنا يتأتى مما نستطيع أن نفعل بهذه القدرة، وهي النقطة التي يبدأ عندها أمننا القومي".
منذ الإعلان هذه الإستراتيجية لم يتوقف الجدل حول جدواها وضرورتها وكيفية الوصول إليها، والأخطار التي يمكن أن تنجم عنها، وكيفية التعامل مع هذه الأخطار، وبخاصة أن هذه الإستراتيجية ترتكز على قاعدتين أساسيتين: القاعدة الأولى أنها تعتمد على الضربات المباغتة دون انتظار انكشاف الأدلة العدوانية للطرف الآخر المقصود، وهو ما أوضحه وزير الدفاع الأمريكي في ولاية بوش الابن الأولى دونالد رامسفيلد لوزراء دفاع الناتو في اجتماعهم ببروكسل في السادس من حزيران 2002 حين قال " إن الحلف لا يمكن أن ينتظر الدليل الدامغ حتى يتحرك ضد المجموعات الإرهابية أو ضد الدول التي تملك الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية". وهذا الأمر يهدد الأمن والسلم الدوليين، ويعرضهما للخطر، ويجعل الاستقرار العالمي مرهوناً بالإرادة الأمريكية المنفردة غير الملتزمة بأي سلطة دولية عدا السلطة الأمريكية والسيادة الأمريكية، وما يتأثر به صانع القرار الأمريكي من عوامل داخلية وخارجية، وأخطرها اللوبي الصهيوني و(إسرائيل). أما القاعدة الثانية فهي احتمالية أن تكون الضربات الأمريكية الإستباقية بإستخدام سلاحاً نووياً تكتيكياً أو إستراتيجياً، إذ يؤكد هذا الأمر (ستيفن يونجر) مدير وكالة تخفيض المخاطر بوزارة الدفاع الأمريكية التي أنشئت عام 1998، فيقول " نحن نريد أن نستخدم أقل قدر من القوة لتحقيق الهدف المطلوب إذا كان ذلك ممكناً أصلاً عن طريق الأسلحة التقليدية، ولا نرغب بعبور الحاجز النووي إلا في حالة طوارئ قومية قصوى. ولكن هناك بعض المخابئ ذات القوة الإستثنائية مما يجعل استخدام أسلحة ذات إشعاع نووي كثيف أمرا لابد منه".