30 مارس، 2014

ما الذي يحرك السياسة الخارجية التركية ؟ التغييرات في تركيا

صدر عدد جديد من نشرة ( ترجمات اقليمية)السنة الثالثة المجلد (2) العدد (25)وقد نشر في العدد مقالة بعنوانما الذي يحرك السياسة الخارجية التركية ؟التغييرات في تركيابقلم : سفانتي كورنيلمكانالنشر: مجلة الشرق الأوسط الفصلية (شتاء عام 2012)ترجمة: ناصر مطلك عبدوحدة الترجمة / مركز الدراسات الإقليمية/جامعةالموصل
أعيد انتخاب حزب العدالة والتنمية (Adalet ve Kalkınma Partisi,AKP) الحاكم في تركيا لفترة ولاية ثالثة في شهر حزيران عام 2011. وجاء هذا الإنجاز الكبير أساسا نتيجة لضعف المعارضة و النمو الاقتصادي السريع الذي جعل من تركيا سادس عشر أكبر اقتصاد في العالم . و لعبت المكانة العالمية المتنامية لأنقرة هي أيضا دورا في استمرار الدعم الشعبي للحزب الإسلامي المحافظ . في الواقع، وبطريقة غير عادية الى حد كبير، اِستهل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خطاب النصر بتقديم التحية" للدول الصديقة و الشقيقة من بغداد و دمشق و بيروت و عمان و القاهرة و سراييفو و باكو و نيقوسيا ". "و قد حظيت مناطق الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان بأكبر قدر من المكاسب كتركيا "، على حد زعمه، متعهدا بتولي دور أكبر في الشؤون الإقليمية والدولية . وقد تعهد حزب العدالة والتنمية أنه و بحلول عام 2023 وهي الذكرى المئوية للجمهورية التركية بأن تكون تركيا من بين العشر دول الرائدة في العالم . وفي نفس الوقت، أصبح تنامي مكانة تركيا مثارا للجدل اِذ كان لأنقرة علاقات دافئة على نحو متزايد مع دول مثل إيران وسوريا والسودان في الوقت الذي قلصت فيه علاقاتها الودية دفعة واحدة مع إسرائيل واستخدامها خطابا أكثر حدة تجاه الولايات المتحدة و أوروبا ما تسبب في كثير من الأحيان في نشوب نقاشات ساخنة حول ما إذا كانت قد نأت بنفسها عن الغرب . وتواصل تركيا عملها ضمن البنية التحتية للأمن الأوروبي، مع أن ذلك أكثر صعوبة من ذي قبل، ولكن شرخا في علاقاتها مع الغرب قد حدث بالفعل، و إذا كان الأمر كذلك، هل أنه لا رجعة فيه ؟ .
تغيير حزب العدالة والتنمية تركيزه من الغرب إلى الشرق تضمنت المبادئ الأساسية التي وجهت السياسة الخارجية التركية منذ تأسيس الجمهورية الحذر والبراغماتية خصوصا مع منطقة الشرق الأوسط؛ إذ يتركز في الأذهان واستنادا الى مخلفات العهد العثماني أن أمام أنقرة القليل لتكسبه و الكثير لتخسره إن هي أقحمت نفسها في السياسة الصعبة والشائكة لمنطقة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من الاختلافات في بعض الأحيان مع القوى الغربية إلا أن أنقرة تركز على يكون لها دور ضمن أوروبا . يبدو أن حزب العدالة والتنمية حافظ على هذا الدور خلال فترة ولايته الأولى ( 2002-2007 ) كما شهدنا من خلال تركيزه على التنسيق مع الاتحاد الأوروبي كوسيلة للانضمام إلى الاتحاد . ولكنه في فترة ولايته الثانية (2007-2011) خرج إلى حد كبير عن هذا النهج .ان أنقرة، مسترشدة بمفهوم " العمق الاستراتيجي " الذي وضعه أحمد داؤد أوغلو، قد ركزت بشكل متزايد على جوارها الإقليمي مع هدفها المعلن بأن تصبح القوة المهيمنة التي تسهم في تحقيق الاستقرار، وهو ما من شأنه أن يجعلها وسيطاً صادقا يمكنه الشروع بمد نفوذه الاقتصادي في جميع أنحاء المنطقة وخارجها. كان شعار تركيا الرسمي والذي يمكن أن يسمى مبدأ داؤد أوغلو، هو " تصفير المشاكل مع الجيران "؛ إذ طورت أنقرة مستوى علاقاتها مع الحكومة السورية بشكل كبير لترقى إلى مستوى شراكة إستراتيجية؛ وأخذ المسؤولون الأتراك أيضا بالشروع في علاقات اقتصادية وسياسية أوثق مع الحكومتين الإيرانية والروسية اللتان تعدان الموردين الكبيرين للطاقة بالنسبة الى الاقتصاد التركي المتنامي. وتمكنت أيضا من الوصول إلى الإدارة الكردية في شمال العراق، وهي خطوة لم يكن بالإمكان تصورها سابقا؛ وفي خطوة جريئة أخرى لكنها أخفقت في نهاية المطاف، سعت قيادة حزب العدالة والتنمية لرأب الصدع مع أرمينيا؛ اِذ لم يقدم من سبقها أبدا على إقامة علاقات دبلوماسية مع يريفان نظرا لاحتلالها ومنذ أوائل عقد التسعينات لمنطقة ناغورنو كاراباخ. لقيت هذه التحركات وبشكل عام الترحيب في الغرب. وأعرب النقاد في واشنطن عن أسفهم الشديد تجاه مبادرات أنقرة إزاء طهران ودمشق، ولكن إدارة أوباما ذهبت من تلقاء نفسها إلى وضع سياسات مماثلة أبعد. قال حزب العدالة والتنمية أنه بإمكانه أن يعمل كوسيط مع هذه الأنظمة التي تقع على حدود تركيا والتي لم يكن لبروكسل وواشنطن سوى علاقات محدودة معها و هو ما من شأنه أن يجعل من تركيا أكثر فاعلية في الاستفادة من الغرب. إن حرص أنقرة للتوسط في النزاعات الإقليمية جلب حسن النية؛ فقد عرضت الحكومة التركية مساعيها الحميدة في تضييق هوة الخلافات بين سوريا وإسرائيل، وأفغانستان وباكستان؛ و بين الفصائل الفلسطينية المتنافسة فتح وحماس، واِن القادة الغربيين عموما مع الرأي الذي يميل الى أن وصول حزب العدالة والتنمية يساعد في انخراط المعتدلين في الدول الخارجة ضمن إطار النظام الدولي.تحولُ محور اهتمامها ولكنسرعان ما أخذت أنقرة تحيد كثيرا عن ما تقوله رسميا؛ وتمخض عن ذلك ثلاث قضايا على وجه الخصوص أثارت القلق إزاء نوايا السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية : إيران وإسرائيل و السودان و مؤخرا تجدد العداء والتنازع على قبرص. و كانت سياسة أنقرة في الانخراط مع طهران محط الترحيب طالما كان تأثيرها على الإيرانيين، وليس العكس؛ إلا أن أردوغان ورفاقه سرعان ما أخذوا بالتحرك بعيدا عن الهدف المعلن في القيام بدور الوسيط بين ايران والغرب، وأصبحوا وعلى نحو متزايد من المدافعين صراحة عن برنامج طهران النووي، ففي شهر تشرين الثاني 2008، حث أردوغان القوى النووية على التخلي عن ترساناتها النووية الخاصة قبل التفاوض مع إيران، وبعد ذلك بوقت قصير أطلق على احمدي نجاد لقب "صديق " و كان من بين أوائل من أضفى الشرعية على الرئيس الإيراني وهنأه على إعادة انتخابهرئيسا لإيرانفي حزيران 2009. ثم بدأ القادة الأتراك علنا بمقارنة مسألة الأسلحة النووية الإسرائيلية مع البرنامج النووي السري لإيران، وفي تشرين الثاني 2009، امتنعت أنقرة عن التصويت لصالح قرار عقوبات من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية ( IAEA) ضد طهران والذي كان محط تأييد كل من موسكو و بكين. في شهر أيار 2010، وفي عرض يتضمن تحديا، قدم أردوغان و الرئيس البرازيلي لويس ايناسيو لولا دا سيلفا عرضا حظي بتغطية إعلامية واسعة في طهران عشية تصويت مجلس الأمن الدولي على جولة جديدة من العقوبات ضد ايران اِذ كانوا يدا بيد مع أحمدي نجاد معلنين عن مقترحهم الدبلوماسي كي يكون خيارا للتعاطي مع قضية الملف النووي الإيراني وفي غضون عامين أصبحت انقرة اكبر مؤيد لطهران على الصعيد الدولي. كان انهيار تحالف تركيا مع إسرائيل سببا آخر لإثارة القلق. فقد سعى حزب العدالة والتنمية في بداية الأمر للتوسط بين سوريا وإسرائيل وكذلك بين الفصائل الفلسطينية، فتح و حماس . مع ذلك، وفي عام 2007، بعد سيطرة حماس على قطاع غزة، كسرت أنقرة المقاطعة الغربية المفروضة على الحركة عندما دعت زعيم حماس السيد خالد مشعل إلى زيارة أنقرة. وفي أعقاب الهجوم الاسرائيلي على حماس في كانون الاول 2008 و كانون الثاني 2009، أصبحت أنقرة أبرز المناوئين لإسرائيل في المحافل الدولية. وفي كانون الثاني 2009، كان لأردوغان موقفه الشهير في أثناء انعقاد اعمال منتدى دافوس الاقتصادي العالمي اِذ دخل في مشادة كلامية رفع خلالها صوته على الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز؛ وفي وقت لاحق قامت تركيا باستثناء إسرائيل من المناورات العسكرية المشتركة التي كان من المزمع اجرائها في ظل رعاية حلف شمال الأطلسي؛ وبحلول ربيع عام 2010، قامت مؤسسة الإغاثة الإنسانية وهي منظمة غير حكومية مرتبطة ارتباطا وثيقا بحزب العدالة والتنمية، بالتخطيط والتنفيذ لتسيير أسطول الحرية نحو غزة بهدف وضع اسرائيل في موقف حرج بشأن حصارها المفروض على قطاع غزة والذي تسيطر عليه حماس. وعندما قتل ثمانية ناشطين أتراك خلال اشتباكات عنيفة مع القوات الخاصة الاسرائيلية التي كانت تروم الصعود الى السفينة، اطلق داؤد أوغلو على الحدث على أنه " 11/أيلول تركيا؛ وهدد عدد من الزعماء الأتراك بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في حين صرح أردوغان مؤكدا أنه لا يعتبر حماس منظمة إرهابية؛ وفي وقت لاحق خفضت أنقرة من مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل. اِن أكثر ما يثير القلق هي المواقف العسكرية لأردوغان، بما في ذلك التهديد بالمواجهة مع إسرائيل، ففي أيلول 2011، قال بأن تركيا سوف تجد ما يبرر لها الدخول في حرب مع إسرائيل في أعقاب حادثة أسطول غزة. وبالإضافة إلى ذلك، صدر أمر الى القوات البحرية التركية في العمل على " ضمان حرية الملاحة " في شرق البحر المتوسط ​​، بما في ذلك دعم تسليم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة ما يثير احتمال حدوث مواجهة مباشرة مع البحرية الإسرائيلية التي تفرض حصارا على غزة، وهو ما اعتبرته لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة قانونيا. علاوة على ذلك، بدأ سلاح الجو التركي باعتماد نظام تعريف هوية جديد لتحديد صديق أم عدو في الطائرات التركية من طراز(F-16s)، ليحل محل النظام السابق لتعريف الطائرات أو السفن الإسرائيلية على انها صديقة وبصورة تلقائية وبالتالي تفادي الاشتباك المسلح بين القوات التركية والإسرائيلية؛ وتقوم شركة( Aselsan) التركية بإنتاج النظام الجديد الذي لا يعين وبصورة تلقائية السفن أو الطائرات الإسرائيلية على أنها صديقة، ومن المفترض أن يتم توزيعه على القوات المسلحة التركية.أشارت أنقرة مرارا إلى السودان على أنه " شريكها الرئيسي في أفريقيا " على الرغم من أنه أبعد ما يكون عن كونه أكبر شريك تجاري لتركيا في القارة الافريقية . وأردوغان في ذلك قد تجاهل الغضب الدولي المتزايد بشأن ما جرى من انتهاك لحقوق الإنسان في دارفور، وكذلك أعرب عن دعمه للرئيس عمر البشير خلال زيارة له في عام 2006، مشيرا إلى أنه لا يرى مؤشرات على وجود إبادة جماعية. وتمت دعوة الرئيس السوداني مرتين لزيارة تركيا خلال عام 2008؛ و في عام 2009، صرح أردوغان علنا بأن ما تقوم به إسرائيل في غزة أسوأ من كل ما قد حدث في دارفور. إن نهج السياسات التركية في جميع الحالات الثلاث يشير إلى وجود تحرك من وسيط نزيه و صانع سلام إقليمي وانحياز مع واحد من الأطراف المعنية؛ العرب في الصراع العربي الإسرائيلي، وحماس في العلاقة بين حماس وفتح، وإيران والسودان ازاء الغرب. وفي خلال وقت مبكر من مدة حكمه، أثبت حزب العدالة والتنمية استعداده للموافقة على القيام بتنازلات بعيدة المدى فيما يتعلق بالنزاع على قبرص لدرجة أنه أثار حفيظة هيئة الأركان العامة التركية. إلا انه وفي الآونة الأخيرة، كان رد فعل أردوغان شديدا تجاه قرار الحكومة القبرصية لتطوير حقول الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط ​​، ملوحا بإرسال القوات البحرية والجوية التركية إلى المنطقة " لرصد التطورات ". وبذلك بدا أردوغان غافلا عن الآثار التي تنجم عن نزاع عسكري مع دولة عضو في الاتحاد الأوروبي على علاقات تركيا مع بروكسل. أدى ابتعاد أنقرة عن الغرب إلى اقترابها من كل من موسكو و بكين و توج ذلك في اجراء المناورات العسكرية المشتركة بين تركيا و الصين في تشرين الاول عام 2010، وهو ما وصف من قبل منتقدي حزب العدالة والتنمية على أنه " تحول المحور. "مركزا للسياسة العالمية
لقد تم الاستشهاد بعدد من العوامل التي تفسر هذا التحول في مجرى السياسة الخارجية التركية. فبينما كانت أنقرة قد شهدت تغييرا هائلا على الصعيد الداخلي خلال العقد الماضي، فانه يمكن القول أن التحول الأكثر أهمية هو بروز تركيا كقوة اقتصادية . منذ عام 1990، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي في تركيا أربعة أضعاف، وقد نمت الصادرات بنسبة خمسة أضعاف، وتضاعف الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة خمسة وعشرين ضعفا، وازدادت قيمة الأسهم المتداولة بنسبة اربعين ضعفا . وفي الوقت الذي أخذ فيه المختصون بالاقتصاد وعلى نحو متزايد بإصدار تحذيرات بشأن العجز في الحسابات الجارية لتركيا، فأنه لا زال من المبكر أن تنتقل مثل هذه المخاوف إلى الوسط السياسي؛ ومن الطبيعي أن تكتسب تركيا التي تعد حديثة العهد بالنفوذ الاقتصادي المزيد من الثقة بالنفس على المسرح الدولي .اِن " إعادة اكتشاف " أنقرة للشرق الأوسط هو جزء لا يتجزأ من ذلك : اِذ تبحث الصادرات التركية عن أسواق جديدة لها، وتقوم أعداد كبيرة من رجال الأعمال وبانتظام بمرافقة القادة الأتراك خلال العديد من الزيارات لدول منطقة الشرق الأوسط . ونظرا للارتباط الوثيق بين السياسة و الأعمال في المنطقة، فان العلاقات السياسية القوية تسهم في حصول رجال الأعمال الأتراك على مستوى معاملة تفضيلية متميزة. وفي شمال العراق الذي يسيطر عليه الأكراد، كانت الآلية مختلفة : فقد ساعد الوجود المتزايد للشركات التركية هناك بعد عام 2003 في فتح الطريق أمام التقارب السياسي مع حكومة إقليم كردستان في أربيل. ثانيا، كثيرا ما ينظر إلى الأخطاء الغربية المزعومة بوصفها عاملا هاما في هذه التحول بما في ذلك وجهة نظر وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس الذي ألقى باللائمة على الاتحاد الأوروبي لموقفه الذي يشوبه الفتور تجاه تركيا " وتغير محور اهتمامها "، في حين كانت أنقرة تقف في الماضي الى جانب الدول الغربية في القضايا الرئيسية للسياسة الخارجية، واستندت هذه العلاقة على وجوب المعاملة بالمثل . من ناحية أخرى، ومنذ أن بدأت تركيا التفاوض من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2005، لم تشتد المعارضة لعضوية تركيا في أوروبا وحسب وإنما تم تأطيرها وبشكل أكثر وضوحا بإطار يستند الى اختلاف الهوية الثقافية لأنقرة عن أوروبا . وكان للدعوات العلنية من قبل السياسيين الفرنسيين والألمان ضد انضمام تركيا تأثيرها البالغ على أنقرة إذ ندد السياسيون الأتراك وعلى اختلاف مشاربهم بهذا الموقف. ويعتقد معظم الأتراك في الوقت الحاضر أن أنقرة لن تنضم أبدا الى الاتحاد الأوروبي، وقد تضاءل حجم التأييد على الصعيد الداخلي لمسالة العضوية؛ وكان لابتعاد تركيا عن أوروبا تأثيره الواضح على السياسة الخارجية. وفي الوقت نفسه، تأثرت العلاقات مع واشنطن في المقام الأول نتيجة للخلافات حول العراق . فقد كان لانضمام تركيا أثره الحاسم في حرب الخليج عام 1991، ولكن بقيت أنقرة غير راضية عن تلك الحرب نظرا للأضرار الجسيمة التي خلفتها على الاقتصاد التركي والذي لم تفعل واشنطن سوى القليل لتخفيف آثاره؛ وظهور كيان كردي مستقل في شمال العراق بحكم الأمر الواقع . وشهدت الأحداث التي كانت ومنذ عام 2003 تدهورا سريعا في تلك العلاقات اِذ أدى استمرار الحرب في العراق وبشكل غير مباشر إلى عودة حزب العمال الكردستاني الى استئناف نشاطه في تركيا. وحتى عام 2007، فشلت الإدارة الأمريكية في ممارسة ضغوط كافية على حلفائها الأكراد في شمال العراق سواءً في كبح جماح حزب العمال الكردستاني أو في إتاحة المجال أمام تركيا لضرب قواعد حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية، الأمر الذي ولد استياءً شديدا في مختلف الأوساط السياسية في تركيا.
زيادة على ذلك، يمكن أن تعزى بعض الاختلافات التي نشأت مع الغرب لعودة شعور الثقة بالنفس بالنسبة لأنقرة، أو ما يطلق عليه أحد المراقبين السياسيين بـ" الغولية التركية " وهو ما يعني ان تكون تركيا دولة " أكثر وطنية و تحديا وثقة بالنفس " وهذه الثقة الجديدة بالنفس واضحة: إذ يعيب وزير الخارجية التركي داؤد أوغلو في كثير من الأحيان على الحكومات التركية السابقة شعور الخوف وعدم الثقة بالنفس، ما يعني أن تركيا عندما تعود الى هويتها وتاريخها يمكن لها أن تلعب دورا كبيرا في المنطقة وخارجها، وهو أن لا تقتصر في التركيز على أحادية البعد في التحالفات مع الغرب بل الأخذ في الحسبان " العمق الاستراتيجي " لتركيا في الأراضي العثمانية السابقة . وفي خطاب ألقاه داؤد أوغلو في عام 2009 في سراييفو، كشف عن طموح أنقرة :قائلاً " سوف نسعى الى إعادة إدماج منطقة البلقان والشرق الأوسط و القوقاز … جنبا إلى جنب مع تركيا كمركز للسياسة العالمية في المستقبل " .دور الفكر
كثيرا ما يرفض حزب العدالة والتنمية أي تعريف له على أنه " إسلامي " وعلى هذا النحو، ويعارض بنفس القدر فكرة أن سياسته الخارجية ترتكز أيديولوجيا، أو أنها تنأى بنفسها عن الغرب في كل شيء. ففي مقابلة عام 2010، على سبيل المثال، نفى الرئيس التركي عبد الله غول نفيا قاطعا كون أنقرة قد أدارت ظهرها للغرب؛ فقد أصبحت تركيا الآن " قوة اقتصادية كبيرة تبنت الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والسوق الحرة . " وقال ان ذلك أصبح " مصدر إلهام " للمنطقة، مضيفا أنه على " الولايات المتحدة وأوروبا أن ترحب بازدياد انخراط تركيا في الشرق الأوسط لأنه يسهم في تعزيز القيم الغربية في منطقة محكومة إلى حد كبير من قبل الأنظمة الاستبدادية". إذا توضح الميول المتزايدة للسياسات تركيا في الانتقال من التوسط الى الوقوف وعلى وجه الخصوص الى جانب القضايا الإسلامية – يؤكد مسألة ما إذا كانت العوامل الأيديولوجية هي التي تؤثر في واقع ما يجري. إلا ان " الإصلاحيين الشباب " بقيادة غول و أردوغان، أكدوا التزامهم بالديمقراطية، وتحالفهم مع النخبة الليبرالية التركية، وسعيا إلى أن يكون الحزب الجديد مقبولا كقوة محافظة من خلال التحول 180 درجة عبر احتضان كل من اقتصاد السوق وتطلعات تركيا في نيل عضوية الاتحاد الأوروبي.وكان هذا بمثابة تحول أيديولوجي مفاجئ من أعلى إلى أسفل في حين بقي حزب العدالة والتنمية إلى حد كبير وفيا لمثل هذا الخطاب الديمقراطي خلال فترة ولايته الأولى، وذلك من اجل توطيد سلطته منذ عام 2007 من خلال تنمية النزعات الاستبدادية في الداخل و الابتعاد عن الغرب في السياسة الخارجية.
وهناك الكثير من التصريحات التي توحي بإعادة تأكيد الأيديولوجية الإسلامية؛ اِذ أن أردوغان وأمام حشد من الأتراك بلغ نحو (000,16)شخصا في مدينة كولون الألمانية في عام 2008، جعل من عملية استيعاب وإدماج الأتراك في المجتمع الألماني، وهو ما حث عليه الساسة الألمان، بأنه يرقى الى مستوى " جريمة ضد الإنسانية ". وفي إشارة إلى الرئيس السوداني عمر البشير، قال انه ذكر في عام 2009 بأنه " لا يمكن لمسلم أن يقدم على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ". وفي الوقت عينه، تظهر تصريحات رئيس الوزراء المناوئة لإسرائيل بأن الكراهية المتزايدة هي ليست تجاه إسرائيل وحسب ولكنها نزعة معادية للسامية تتسم بها الحركات الإسلامية في جميع أنحاء العالم؛ وبناءا على ذلك، وفي عام 2009 ألقى أردوغان باللائمة على"وسائل الإعلام المدعومة من اليهود " متهما إياها بنشر الأكاذيب بشأن الحرب على غزة. وفي السياق ذاته، وعندما أيدت مجلة (The Economist) المعارضة التركية متمثلة بـ (حزب الشعب الجمهوري) في انتخابات حزيران 2011، وجه أردوغان الاتهام لهم على أنهم يعملون في سبيل المصالح الإسرائيلية، وانتقد زعيم حزب الشعب الجمهوري على أنه أداة بيد إسرائيل، و أعرب عن أسفه إزاء حقيقة كون حزب الشعب الجمهوري، وفي عهد الرئيس الثاني في تركيا عصمت اينونو، قد اعترف بإسرائيل كدولة . وكانت العديد من التصريحات لأردوغان والتي تحمل طابعا حماسيا شديدا هي في أثناء الحملات الانتخابية، ويمكن تفسير ذلك على أنه دعايات انتخابية. خلال السنوات القليلة الماضية كان قد هيمن على صياغة و إدارة السياسة الخارجية التركية كل من أردوغان و داؤد أوغلو، الذي يعتبر وعلى نطاق واسع مهندس السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية و له تأثير كبير على وجهات نظر أردوغان؛ وهو الى جانب خبرته الأكاديمية الطويلة التي سبقت صعوده إلى الشهرة السياسية، قد ترك وراءه الكثير من الأعمال المنشورة التي تضم رؤى واسعة عن نظرته للعالم .
الرؤية البديلة لحزب العدالة والتنمية
في الوقت الذي كان فيه أشهر كتب داؤد أوغلو لعام 2000 هو كتاب" StratejikDerinlik" (العمق الاستراتيجي ) فقد كانت له مؤلفات أخرى كتبها في وقت سابق لا تقل فائدة ومنها : أطروحة الدكتوراه التي نشرت في عام 1993 :" تأثير الرؤية الاسلامية والغربية على النظرية السياسية" وفي عام 1994 أصدر كتاب "التحول الحضاري والعالم الإسلامي"؛ وله أعمال غزيرة والعديد م

مشاركة الخبر