27 أغسطس، 2025

مقالة

شخصية الرسول ﷺ في ضوء المبادئ القانونية والإنسانية
الدكتور أحمد فارس إدريس
جامعة الموصل- كلية الحقوق
المقدمة
يعد الرسول محمد ﷺ شخصيةً جامعةً بين الرسالة الإلهية والقيادة الإنسانية، فمثّل قدوةً في الأخلاق، ونموذجًا للعدل، ورائدًا في تأسيس مبادئ قانونية ما زالت الأنظمة الحديثة تسعى لترسيخها. إن دراسة شخصيته من زاوية قانونية تسلط الضوء على العلاقة الوثيقة بين القيم الدينية والقواعد القانونية، وكيف جسّد الرسول ﷺ العدالة في السلوك والتشريع معًا.
أولاً: شخصية الرسول ﷺ في ميزان العدالة
جعل الرسول ﷺ العدالة أساس الحكم والعلاقات الاجتماعية، فكان يساوي بين الناس أمام الحقوق والواجبات دون تمييز، مؤكّدًا ذلك بقوله:
“إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدهها” (١).
ويتطابق هذا المبدأ مع قاعدة المساواة أمام القانون التي تُعدّ حجر الزاوية في التشريعات الوضعية الحديثة.
ثانياً: مبدأ سيادة القانون في سيرته
لم يجعل الرسول ﷺ نفسه فوق القانون، بل قبل أن يُقاصّ منه أحد أصحابه في حادثة مشهورة يوم بدر، حين طلب سواد بن غزية القصاص منه بعد أن وخزه بقدحه، فمكنه الرسول من نفسه قائلاً: “استقد” أي اقتصّ(٢).
وهذا يعكس مبدأ خضوع الحاكم للقانون، وهو من أهم ركائز النظم الدستورية المعاصرة.
ثالثاً: البعد الإنساني في شخصيته
لم يكن الرسول ﷺ مشرّعًا فحسب، بل كان قائدًا إنسانيًا يرعى الضعفاء ويحمي الحقوق. فقد قال ﷺ: “اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله”(٣).
كما قال في خطبة الوداع: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”(٤).وهذه المبادئ تماثل اليوم ما يعرف بـ حقوق الإنسان كما وردت في المواثيق الدولية.
رابعاً: التسامح كقاعدة قانونية واجتماعية
من أبرز ملامح شخصية الرسول ﷺ التسامح مع الخصوم، إذ عفا عن قريش يوم فتح مكة قائلاً: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”(٥).
ويُعتبر هذا الموقف مثالًا مبكرًا لمبدأ العدالة الانتقالية، الذي يسعى لتحقيق التوازن بين المحاسبة وحفظ السلم الأهلي.
خامساً: الدروس المستفادة للأنظمة القانونية الحديثة
من خلال شخصية الرسول ﷺ ندرك أن القانون بلا قيم أخلاقية يصبح جافًا، وأن العدالة لا تكتمل إلا إذا اقترنت بالرحمة. وقد جسّد الرسول ﷺ هذا التوازن، ليكون أنموذجًا خالدًا يُحتذى في التشريع والإدارة والقضاء.
الخاتمة:
إن شخصية الرسول ﷺ ليست مجرد موضوع تأملي، بل هي مدرسة قانونية وإنسانية متكاملة. فقد سبق بممارساته وسننه كثيرًا من المبادئ التي تنادي بها القوانين الوضعية المعاصرة: المساواة، سيادة القانون، حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية، والتسامح. ومن هنا، فإن دراسة شخصيته ﷺ ضرورة لفهم الجذور الأصيلة للفكر القانوني والإنساني.
المصادر والمراجع
1. القرآن الكريم.
2. صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان.
3. صحيح مسلم، كتاب الحج، باب خطبة النبي ﷺ بمنى.
4. مسند الإمام أحمد، حديث سواد بن غزية.
5. السيرة النبوية لابن هشام، ج4، باب فتح مكة.
6. القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار الفكر، بيروت، 1996.
7. محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، 1987.
8. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق، 2002.
9. عبد الكريم زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1982.
10. محمد أبو زهرة، المجتمع الإسلامي والفكر القانوني، دار الفكر العربي، القاهرة، 1962.

 

مشاركة الخبر

مشاركة الخبر