23 ديسمبر، 2012
التنظيمات الحِرفية في الموصل في أواخر العهد العثماني
تميزت مدينة الموصل ولآماد طويلة بسمعتها الايجابية في مجال النشاط والإنتاج الحِرفي،وذلك لإدراك أهاليها دور الحِرف في ديمومة الحياة ،عبر رؤيتهم الاقتصادية القائمة على الاكتفاء الذاتي . وعرفت العوائل الموصلية بأسماء حِرفييها وصناعها أكثر مما عرفوا بانتماءاتهم العشائرية والقبلية.لقد كانت الحِرف والمهن في مدينة الموصل مدرجة ضمن العرف الاجتماعي فكان لكل حِرفة أو مهنة أصناف خاصة بها في العهد العثماني ،إذ كان يقف على رأس كل صنف رئيساً أعلى يعرف عند أهالي الموصل بـ (شيخ الصنف)، ويكون عادة من بين الذين يتميزون بالدراية والفطنة في مجال النشاط الحِرفي عموما، كان ينتخبه المعرفون بـ (الأسطوات) المشهود لهم بالإتقان والبراعة في مجال تخصصهم الحِرفي ،فضلا عن ذلك كان شيخ الصنف يتمتع بصلاحيات معينة، وفي مقدمتها استمراره شيخا للصنف مادام حيا، إلا في حالة أتخاذه سلوكا أو تصرفا معينا ينافي أخلاقيات الصنف، وهذا مايستدعي استبداله بشيخ اخر، ويأتي بعد الشيخ من ناحية الترتيب الخلفة الذي يُعّد الشخصية العملية في مجال الحِرفة أو المهنة، ويساعده في ذلك مجموعة من العاملين، ويكون مجموع البناء الهرمي للحِرفة أو المهنة بشكل مايعرف في الموصل بـ (أهل الموصل).وتحددت واجبات (شيخ الصنف) بعقد الاجتماعات لمجموعة الصنف وذلك لإيجاد فرص العمل التي تتناسب مع اختصاصاتهم، فضلا عن تسمية رؤساء مجموعات العمل الذين يقومون بدورهم بالإشراف على تنفيذ الأعمال كما يجب، كما يقوم الشيخ بوصفه مرجعا أساساً يجمع الضرائب المفروضة على الصنف وكل حسب مورده من العمل، وبذلك يمكن القول أن أصحاب الحِرف ضمن أصنافهم يشكلون رابطة عمل في مدينة الموصل في العهد العثماني.لم تكن مهام أصحاب المهن والحِرف يسيرة على الدوام، إذ كانت تتعرض إلى مضايقات وعقبات، ففي غضون القرن الثامن عشر يمكن تحديد ماتعرضت له رابطة الحِرفيين في الموصل عندما بدأت الحِرف والمهن تخرج عن حدود عمل الرابطة، (الصنف)، وذلك بسبب الحاجة التي ترتبت على تحركات الجيش العثماني في المدينة وتوفير المباني العسكرية الخاصة به، وهذا أدى إلى ظهور تنظيمات حِرفية خارجة عن نطاق الرابطة الحِرفية التي تعد مرجعية في توجيه الحِرف والمهن في مدينة الموصل وتوفير المباني العسكرية الخاصة في مدينة الموصل في الفترة العثمانية، وهذا مادفع ببعض أعيان مدينة الموصل ومنهم علي أفندي وإسماعيل أغا الجليلي وقرا مصطفى إلى إعادة تنظيم عمل أصحاب الحِرف وتوطيده، وبخاصة ما يتعلق بالضرائب التي يتوجب دفعها إلى السلطة العثمانية، فقد نظم هؤلاء الأعيان طريقة التنفيذ هذه، إلا أن الاضطرابات والتذمرات كانت واضحة على واقع أصحاب المهن والحِرف، جراء النظام الضريبي المفروض عليهم من قبل السلطات العثمانية.ونتيجة لحالة الفوضى في مجال الحِرف والمهن فقد تدخلت السلطة العثمانية في وضع تقسيم للأصناف الحِرفية وذلك من خلال أقرار سبعة أصناف رئيسة ،يشرف عليها شيخ واحد يعرف بـ (شيخ الأصناف)، والغرض من هذا الإجراء تطوير الجانب الإداري لعمل الأصناف الحِرفية، فضلا عن تحقيق هدف أساس يعود بالفائدة على السلطة العثمانية والمتمثلة بسهولة جمع الضرائب عن طريق شيخ الأصناف، الذي أعتمد عليه العثمانيون بوصفه عنصراً لإيصال التعليمات الصادرة من الإدارة العثمانية في الموصل إلى منتسبي الأصناف.1-صناعة النسيج : اشتهرت الموصل بالصناعات النسيجية اليدوية، وكان (الموسلين)، مثالاً حياً للأقمشة الفاخرة والرائجة حتى في الأسواق الأوربية ووصلت هذه الصناعة قمة جودتها في القرن التاسع عشر، حينما كان في الموصل (75000) معملاً يدوياً (نول) وعلى الرغم من انخفاض العدد إلى (3500) نول عند افتتاح قناة السويس إلا أنهّا أخذت بالتطور منذ سنة 1880، نتيجة الأقبال المتزيد لشراء منتجاتها. وقد وصلت قيمة صادرت الموصل من العباءات الصوفية سنة 1909م (500) باون، أما قيمة صادرات الازارات فقد بلغت (1800) باون مما يدل على تقدم الصناعات النسيجية في الموصل،وبلغ من إنتشار صناعة النسيج في الموصل أن كل بيت موصلي يحوي دولابا لغزل الصوف، وبحكم الدقة والمهارة الفنية التي تميز بها الموصليون، فضلاً عن الظروف المناخية والنظام العمراني شجّع أهالي الموصل لمزاولة صناعة النسيج حيث يحتوي معظم البيوت على سراديب معدة لهذا الغرض، في حين حاول بعض الأشخاص تأسيس شركة مساهمة للنسيج في الموصل على غرار شركة المنسوجات في بغداد وتقرر أن يكون رأسمالها مبدئيا ألف ليرة عثمانية، ويشتغل في هذه الشركة الأيتام وأولاد الفقراء بأجور زهيدة على شرط إيوائهم وتعليمهم مبادئ القراء ة والكتابة، وقد حظيت هذه الفكرة بالتأكيد والقبول. لقد أنتجت الموصل العباءات والملابس الخام والجواريب، واشتهرت بدباغة وصناعة الأحذية، وقبل الحرب العالمية الأولى كان في الموصل (ستة) محلات لصناعة الأحذية، وكانت الحاجة المحلية عاملاً وراء دفع العراقيين وبضمنهم الموصليين إلى مزاولة الصناعة اليدوية المتنوعة وتطويرها إلا أن توسع الحركة التجارية وازدهارها اثر افتتاح قناة السويس عام 1869م أدى إلى تقلص وانكماش هذه الصناعات نتيجة تدفق المصنوعات الأوربية والتي امتازت بدقة وجودة صنعها وأسعارها المنخفضة والرخيصة فكتب على الصناعات المحلية وخاصة النسيجية أما التطور، أو التدهور والاضمحلال والزوال. وفي عام 1911م هبط عدد الحائكين الذين ينتخبون الأقمشة والخيم والحبال وغيرها في الموصل إلى (500) حائك بعد أن كانت الموصل قبل ذلك التاريخ تعد مركزا مهما من مراكز صناعة المنسوجات. وشهدت الأصناف الحِرفية في مدينة الموصل في العهد العثماني، وبخاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر انحساراً واضحاً في أنشطتها إذ نشطت تجارة الموصل الخارجية في تلك الفترة، حين أقدم العديد من التجار على استيراد البضائع والسلع من بعض الدول الأوربية، وفي مقدمتهم التجار المسيحيون واليهود مما أدى إلى اضمحلال بعض الحِرف في المدينة وفي مقدمتها صناعة النسيج الذي اشتهرت بها الموصل لفترة تاريخية طويلة، ألا وهو قماش الموسلين والمعروف لدى أهالي الموصل بـ (الشاش) الذي له صدىً وقبول وصل إلى أوربا إلا أن تخبط التجار في الاستيراد أدى إلى انهيار صناعته في مدينة الموصل. وكانت لسياسة الولاة العثمانيين في مدينة الموصل دور على التأثير في نشاط الأصناف الحِرفية، وذلك من خلال عبء الضرائب التي كانت تستحصلها الإدارة العثمانية من أصحاب الحِرف والمهن المختلفة، وهذا بطبيعة الحال كان له تأثيرات سلبية في أداء الأصناف الحِرفية في مجال أنشطتها، ومع ذلك فإنّ الولاة كانوا يؤثرون في تحصيل الضرائب مباشرة، فالوالي العثماني يسمح لـ(شيخ الصنف) الذي لا يستطيع دفع ما عليه من الضرائب بدفعها لاحقاً، وبضمانة الوالي نفسه من خلال سند قانوني مالي موجه إلى خزينة الولاية. لقد اعتمدت الأصناف الحِرفية في مدينة الموصل في فترة الحكم العثماني نظاما خاصا متشعباً من نظام الرابطة المهنية، فكان هناك خطوات معينة لانتساب المرء إلى الحِرفة هو أطلاق اسم (المبتدئ) أو (الصانع) عليه، وبعد فترة زمنية معينة يثبت فيها قدرته وجدارته ينتقل بعدها إلى مرتبة (الخلفة أو الأسطة) أو المعلم، وهي ألقاب لدرجة واحدة، ثم تأتي المرتبة الثالثة والمتمثلة بشيخ الصنف الذي يشرف على الصنف بشكل عام، وعلى وفق هذا التنظيم كانت الحِرف والمهن في مدينة الموصل.2- الرحالة الأجانبوصناعة النسيج:اشتهرت الموصل بصناعات مختلفة، لعل من أبرزها صناعة النسيج القطني المسمى الموسلين، وقد أشار العديد من الرحالة الذين زاروا المدينة أبان العهد العثماني إلى هذا المنتوج ومنهم لانزا الذي اشار بالقول: "إن الرجال يهتمون بنسجه بأشكال مختلفة، وآخرون بتقصيره، وغيرهم بصبغه أورسمه بصور شتى وغيرهم بنقله وبيعه، وهكذا فالجميع يشتغلون به.. "وفي الموصل مصانع كثيرة للنسيج والحياكة والصباغة وطباعة النقوش على المنسوجات والمهنتان الأخيرتان بيد النصارى" في حين أشار بكنغهام إلى صناعة الملابس القطنية ووصفها بأنها الصناعة الوحيدة التي تمارس على نطاق واسع لإكساء الفئات الفقيرة، وكانت هذه الملابس تصبغ باللون الأزرق، ويبدو أن هذا كان السبب في كثرة استيراد سكان الموصل لصبغة النيلة من حلب".ومن الجدير بالذكر أن (الغزل اليدوي) لخيوط القطن استمر في الموصل حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، ففي نهاية القرن التاسع عشر كان الغزالون القرويون في أطراف الموصل يؤمّنون سنويا للنساجين في المدينة مايزيد على (105) مليون باوند من غزول القطن، وبما أن مهمة تجار الموصل هي تهيئة المواد التي يحتاجها الحِرفيون لترويج صناعتهم، لذلك عمد هؤلاء التجار وتحديدا أبان سنوات التدهور الاقتصادي إلى شراء القطن الخام من حلب وتوفيره للغزالين، إلا أن المتضرر في هذه الحالة، هم القرويون الذين لم يجدوا وسيلة لتصريف منتجاتهم من غزل القطن.كما شهدت تجارة الموصل تنافسا متزيدا بين الحائكين والتجار من جهة والصناعات الأجنبية من جهة أخرى حول الأسواق المحلية، وقد بذل النساجون السوريون جهدا ذاتيا لينتزعوا من السوق المحلية في الموصل من الصادرات الأوربية وبالمقابل يشير بادجر إلى أن الأقمشة القطنية كانت تستورد من ليفربول ومانجستر وكلاسكو ويدفع ثمنها ذهبا. كان إقبال الناس عليها شديدا، في حين ضعف الإقبال على الأقمشة السويسرية، وهذا ما أشار إليه القنصل الفرنسي في الموصل عام 1850م إذ كتب في تقريره قائلا :"لقد عانى الصناع اليدويين في هذه المدينة (الموصل) كثيرا لعدد من السنين من منافسة القماش القطني المسمى (لسترين) المصنع في سويسرا الذي يقلد النماذج الدمشقية ولكن سكان (الشرق) الذين بهرهم رخص سعره أولا عادوا وغيروا رأيهم فيه حين أدركوا أن القماش تنقصه المتانة "وقد شهد على ذلك الرحالة جاكسون الذي أكد على أن صناعات الموصل فاقت في جودتها المصنوعات الأوربية.وفي تسعينيات القرن التاسع عشر كانت الموصل تمتلك نحو (800) نول تنسج أقمشة متنوعة أهمها القطنية، وبعد عشرين سنة كان هناك ما يقدر بألف نول يعمل في الموصل، ولم تقتصر صناعة النسيج على المصانع والورش، إنما كانت معظمها صناعات منزلية، ولاسيما في الريف، وكانت العوائل الريفية تتجاهل صناعة النسيج عندما تكون أسعار المنتجات الزراعية باهضة الثمن، بينما كانت في الأوقات غير المؤاتية تعدد مرو أخرى لصناعة الأقمشة للعائلة والسوق معا، وكانت الصناعة المنزلية تتأرجح وفقا للمحصول، إذ أن العمالة العائلية كانت بين مد وجزر فيما بين قطاعي الصناعة والزراعة اعتمادا على ظروف السوق وفرض الدخل.ومهما يكن من أمر فإن صناعة الأقمشة، ولاسيما (الموسلين) تلاشت ولم تعد تصنع في الموصل على حد تعبير الرحالة الألماني اوبنهايم في أواخر القرن التاسع عشر ولم يبد هذا الرحالة أي اهتمام بالصناعات المحلية التي قال عنها : "أنها لاتستحق الذكر".أما في مجال الصناعات الأخرى التي اشتهرت بها الموصل فهي السجاد المطرز بالأزهار، وقد وصفه الرحالة جاكسون بأنه أفضل وامتن السجاد المحلي الذي تصنعه أوربا، وكذلك سروج الخيل وأحزمتها الأنيقة بوجه خاص، فضلا عن المطرزات الثمينة المدهشة للرجال والنساء معا، ولديهم العديد من مصانع النحاس والحديد، وشهدت قرى الموصل إلى جانب ذلك نشاطا ملحوظا في صناعة الصابون.