25 نوفمبر، 2012
مدينة الموصل القديمة.. الهوية الوطنية التراثية
تعد مدينة الموصل القديمة من الحواضر العربية الشهيرة في العالمين العربي والإسلامي بالنظر لما تمثله من موقع استراتيجي موصل بين حضارات الشرق وأوربا فضلاً عن أهميتها الحضارية والتاريخية المستمدة من الأدوار العظيمة التي لعبتها المدينة في الأحداث الجسام التي مرت على المنطقة العربية من الناحية السياسية والتطورات الاقتصادية فضلاً عن مواقفها البطولية في الدفاع عن ثراها أمام أعتى الهجمات الشرسة التي شهدها الشرق في القرن الثامن عشر، فخرجت الموصل دوماً منتصرة شامخة وما تزال دلائل عظمة هذه المدينة دالة عليها كقلعة الموصل الحصينة ( باشطابيا) اذ دكت على أسوارها هامات الأعداء. وقد مر بهذه المدينة العديد من الرحالة العرب والأجانب ودونوا عنها مآثرها وأبدوا إعجابهم بمورفولوجيتها ومنهم من عدها ( درة الشرق ) لجمال تركيبها الداخلي في الأسواق المتنوعة والمتخصصة ومحلاتها السكنية ودروبها الضيقة وتناسق شوارعها وقيصرياتها وجوامعها ومساجدها وأديرتها وحماماتها ومقاهيها وخاناتها وسكلاتها وحتى سورها وأبوابه. فضلاً عن حيوية أهلها وفطنتهم ووفادتهم للضيف وجديتهم في العمل وأسلوب تفكيرهم المنظم الذي يفضي إلى العمل القويم.لقد أدركت جامعة الموصل منذ تسعينيات القرن الماضي أهمية الحفاظ على بهاء مدينة الموصل القديمة والتنبيه بالمخاطر المحدقة بها وإيقاف معاول الهدم فيها، وذلك من خلال سلسلة من الندوات التي عقدتها الأقسام العلمية والمراكز البحثية ومنها مركز دراسات الموصل في ندوة ( أنقذوا آثار مدينة الموصل سنة 1998) وندوة ( الأسواق في الموصل 1999 ) وندوة ( العمارة في الموصل والواقع وآفاق المستقبل 2001 ) وندوة ( مئذنة الجامع النوري وقلعة الموصل باشطابيا 2007 ) وندوة ( مورفولوجيا مدينة الموصل القديمة 2008 ) وقد أفضت تلك الندوات عن جملة توصيات ومقترحات رفعة إلى الجهات ذات العلاقة، ولو أخذ اليسير منها لما آل الحال إلى هذا المآل من تشوهات ومحق للهوية المعمارية والتراثية لمدينة الموصل ذي المآثر والمكانة الرفيعة.إن الشعوب قد وعت منذ وقت مبكر بأهمية الحفاظ على وعائها الحضاري وشواهدها التاريخية الدالة على أصالتها فهذه مدينة فاس القديمة بسورها القديم والمزدانة بأبوابها القديمة لا تدخلها المركبات إطلاقاً فبقيت محافظة على هويتها التراثية والحضارية والتاريخية. وهنالك مدن عربية أخرى .لو انتقلنا إلى أوربا فنجد أنهم قد حافظوا على أصالة موروثهم المعماري الذي يعود إلى قرون عديدة خلت. فتلك مدينة جنيف وعلى مساحة عدة كيلومترات منعت تشييد أية بناية تضاهي بعلوها أسقفية جنيف الواقعة في وسط المدينة القديمة وذلك من أجل أن يبقى برجها بارزاً من كل الجهات.ومن المعروف لدى علماء النفس أن البيت يرمز إلى نفسية الإنسان و دواخله، فكذلك المدينة إذ يمثل شكلها وتنظيمها والعناية في أجزائها انعكاساً لطبيعة المجتمع ونفسيته. ومدينة الموصل القديمة هي الجزء الأصلي والحي الذي يحكي قصتها المترعة بالأمجاد والشمم فينبغي توجيه كل العناية لها وأن تكون بمنأى عن العبث في معالمها من خلال سن القوانين الرادعة وأن لايكون التعمير والتجديد إلا بأذن خاص من الجهات الحكومية ذات العلاقة وضمن الأطر المعمارية الموصلية المعروفة ولتبقى مزدانة ولتزدان بهاءاً.وإذا ما أريد الحفاظ على المتبقي من هذه المدينة فعلينا العمل على تسويرها كما المدن القديمة. وإعادة العمل بمفرداتها البنائية كالسراديب و الكوشات و الأواوين والزجاج الملون وبناء الغرف على الطرز القديمة وأن تكون مادة البناء الأساسية الجص والحجر والحفاظ على الأفاريز و التوريقات و المحجلات الحديدية و الكوشات في الطوابق العلوية.فهذه تونس والمغرب واليمن لا تزال تستخدم مادتي الجص والحجر في المحافظة على سمات مدنهم القديمة. ولهذه المواد فوائد مناخية وبيئة معروفة لذوي الاختصاص في الهندسة المعمارية والتي ستفضي إلىجمال المدينة واعتدال مزاج أهلها والشعور بالغبطة عندها ستكون مدينتنا مركز جذب سياحي وإستثماري مع إعادة الحياة للمهن والحرف القديمة في المدينة العتيدة.إن الحفاظ على هوية الموصل التراثية بعمرانها وصورتها التاريخية التي تجذرت عبر مئات السنين هو جزء لا يتجزأ من الحفاظ على بهاء التراث العراقي العام ضمن خصوصية الموروث الأصيل. عليه ندعو إلى تأسيس مركز حكومي يطلق عليه تسمية (مركز التخطيط الحضري لمدينة الموصل القديمة) يعنى بكل مفردات المدينة القديمة. ونتوجه إلى الأسر الموصلية الكريمة للمساهمة في تثبيت إنجازات أسرهم على الصعد كافة. كما ندعو إلى إنجاز مشروع بانوراما مدينة الموصل بالصوت والصورة إبتداءاً منذ تأسيسها ومروراً بكل إنجازاتها الحضارية والمعرفية وحتى الآن، لتكون بمثابة رسالة حية من الأجداد إلى الأحفاد.