28 فبراير، 2013
ديوان الموصل في عهد بدر الدين لؤلؤ
تُعَدُّ الدواوين مظهراً من مظاهر التنظيم الإداري في الدولة العربية الإسلامية، كما أنه يمثل أهـم مظاهر التقدم والتنظيم فيها، ولم تخلَُ دولة من الدول الإسلامية من هذا التنظيم، وكانت الدولة العباسية في مقدمة هذه الدول إذ أنشأت لها عدة دواوين، لا سيّما في عصورها المتأخرة، ومن أشهر هذه الدواوين الديوان العزيز، وديوان الإنشاء، وديوان الزمام، وديوان العقار، وغيرها. وقد طبّق الزنكيون التنظيمات الإدارية والعسكرية التي كانـت معروفة عند السلاجقة، لا سيّما وان عمـاد الدين زنكي مؤسس دولة الأتابكة في الموصل كان متأثراً بها كل التأثير بحكم خدمته الطويلة لأمراء السلاجقة وكذلك بحكم المناصب التي تولاها، فلما آلت إليه إمارة الموصل سنة 521هـ/ 1127م نقل النظم الإدارية التي كانت سـائدة في تلك المـدن وطبّقها في النظـم الإدارية والعسكرية في دولته الفتيـة.وقبل الحديث عن ديوان الموصـل في عهد بـدر الدين لؤلؤ ( 606- 658 هـ/ 1209-1258م) لابدّ من إعطاء نبذة موجزة من التنظيمات الإدارية في العصر الأتابكي، فعلى الرغم من انتقال الموصل من عهـد إلى آخر، وسقوط أمراء وقيام آخرين مكانهم، إلاّ أن هذا لا يعني سقوط التنظيمات القديمة بأجملها وقيام تنظيمات أخرى مكانها. ويمكن القول أنّ التنظيمات في خطوطها الأساسـية لم يصبها تغير كبير أثـر تلك الانقلابات، إذ لم يُؤَدِّ تحول الموصل من عهد ولاة السلاجقة إلى عهد الأتابكة إلى ظهور مؤسسات إدارية جديدة، بل أكثرها بقي موجوداً مع إجراء بعض التعديلات عليها مع استحداث عدد قليل من المناصب التي كانت تقتضيها الظروف العسكرية والسياسية الجديدة، كما أنهـم اقتبسوا شـيئاً من التنظيمات الإدارية السائدة في الدولتين الأيوبية والمملوكية.وطبّق الزنكيون،التنظيمات الإدارية والعسكرية التي كانـت معروفة عنـد السلاجقة،، ومن الوظائف الإدارية الرئيسة لدى الأتابكة: نائب القلعة، الوزير، ولاة المدن، القاضي، ناظر الديوان، الحاجب، المحتسب. وعيّنوا أمـراء للجيش، والنظر على الوقـف.وورث الأتابكة الدواوين والتي تمثل مظهـر من مظاهر التنظيم الإداري، وكان لصاحب الديوان أهمية كبيرة يضاهي منصب الوزير. وكانت وظيفة الإشراف على الديوان على درجـة كبيرة من الأهمية، وكانت الدواوين في الموصل قد بلغت مرحلة متقدمة من الاتساع والنمـو وكثرة الموظفين وضخامة المصروفات، وكان على رأس ديوان الموصل موظف يسمى (نائب الديوان).واحتفظ بدر الدين لؤلؤ في حكمهِ للموصل، بالوظائف المهمـة الضرورية، كمنصب الوزير، والنائب، والقاضي، والحاجب،.. الخ، وألغى وظائف إدارية أخرى، واتخذ ديواناً أطلق عليه اسم (ديوان الموصل) الذي كان يُعنى بالتنظيم الإداري المدني، ويتولى صلاحيات (ديوان الجيش) حتى أنه لم يعد بالإمكان التفريق بسهولة بين الإدارة المدنية والإدارة العسـكرية، وذلك لأن الـدور الذي كان يقـوم به (ديوان الموصل) في التنظيمات العسكرية لم يتضـح تماماً، فقد سجّلت أسـماء الجند وأحوالهم إلى جانب أسماء الموظفين المدنيين، كما أنّ غالبية الإداريين في الديوان كانوا يخولون من سلطات عسكرية إلى جانب سلطاتهم المدنية، وكان (ديوان الموصل) على غـرار (ديوان الإنشاء) وكان أحياناً يسمى (ديوان الرسائل) في الدولة العباسية، واقتبس شيئاً من تنظيم دواوين المماليك، اذ كان يعمل فيها الموظفون المدنيون وليـس العسكريون. وقد ظهر (ديوان الموصل) نتيجة لحاجة بدر الدين لؤلؤ إلى التنظيم الإداري المدني والعسكري، فهو يقوم بتنفيـذ أوامره ومكاتباته وإيصالهم في الداخل والخارج، وأصبح بمثابة المركز الذي تمثل فيه شؤون الإدارة الرئيسة، وكان (ديوان الموصل) يشمل أسماء القُوّادْ ومناصبهم والجند وطوائفهم ورواتبهم وأعطياتهم واقطاعاتهم وما يتعلق بأحوالهم الأخرى، ومن المرجّح أن (ديوان الموصل) حلَّ محلّ (ديوان الجند أو الجيش) الذي كان موجوداً في العهد الأتابكي في الموصل والذي كان يشرف على شؤون الجند وأحوالهم وتنظيمهم وكان يُطلق عليه أحياناً اسـم (الديوان) فقط، وهذا أمر طبيعي بالنسبة للأمارة الأتابكية، لأنها كانت تهتم بالأمور العسكرية.ويبدو أنّ جانباً مهماً من نشاط هذه الدواوين أخذ يتناول الأمور العسكرية، وذلك لأهميتها بالنسبة إلى بدر الدين لؤلؤ كالإشراف على شؤون الجند وأحوالهم،حيث كانت لهم أهمية كبيرة في المحافظة على الممتلكات هناك، كما أنّ الرسائل التي كانت ترد منها إلى ديوان الموصل كانت تناول شرح الموقف العسكري الراهن هناك،وهذا يتطلب أن يكون متولوا هذه الدواوين من المشهود لهم بفنون الأدب والسياسـة والإخلاص للسلطان ليمكنهم من توضيح هذا الأمر بكل مقدرة وكفاية، ولكي لا يخفون عليه الأسـرار العسكرية المهمة التي تتعلق بمصير هذه الممتلكات والمدن حين تعرضها للمخاطر. كما شمل (ديوان الموصل) اختصاصات الشؤون المالية أو (ديوان الاستيفاء)، وقد عمل في ديوان الاستيفاء في عهد بدر الدين لؤلؤ أشخاص يتصفون بمزايا معينة مثل الانتساب إلى عوائل متنفذة كان أفرادها يعملون في المجال الإداري أو المالي، كما ضمَّ (ديوان الموصل) عـدداً من كتّاب الإنشاء في عهد بدر الدين لؤلؤ، وكانوا يقومون بإنشاء الرسائل وتحريرها وهو ما كان يسمى (كاتب الديوان)، ومما يُذكـر أن (ديوان الإنشاء) من الدواوين المهمة، فمنه صياغة الكلام وترتيـب المعاني في المكاتبات والولايات ومناشير الأقطاعات، ومنه تحرر الرسائل السياسية، وفيه يتم مراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في الصيغة النهائية، ومن شرط ناظره أن يكون متضلعاً في العلوم، لا سيّما الأدب والبلاغة، وكان أغلب كتّـاب الإنشاء في ديوان الموصل في عهد بدر الدين لؤلؤ واسعوا الإطلاع في الكتابة واللغة، وكان بدر الدين لؤلؤ يختار كتّاب الإنشاء للديـوان، فيُراعي أن يكونوا على جانب كبيـر من المقدرة والكفايـة والاطلاع باللغة وفنـون الأدب الأخرى، لكي يضفي ذلك على وظائفهم البهاء والكفاءة والقوة. فضلاً عن ذلك كان هناك أيضاً النسّاخ الذين كانوا يقومون بنسخ الرسائل التي يعدها كتّاب الإنشاء، ووظيفة الخازن الذي كان يهيئ لديوان الأوراق التي تشتمل على الأمـور المهمة للنظر فيها ووظيفة الحاجب الذي كان ينظم الدخول والخروج على باب الديوان. وكان يرأس ديوان الموصل في العهد الأتابكي موظف باسم (نائب الديوان)، أما في عهد بدر الدين لؤلؤ فكان يُسمى هذا الموظف (رئيس الديوان) أو (متولي الديوان) أو (كاتب الديوان)، وكان يقوم بواجبات تشبه إلى حد ما واجبات صاحب الديوان في الدولة العباسية في آخـر عهدها، وكان بدر الدين لؤلؤ يُراعي الإشراف الدقيق على الديوان وذلك لتركيز الأخير على المركزية في الحكم. ومما يذكر أنه كان هناك دواوين أخرى غيـر (ديوان الموصل) كـ (ديوان جزيـرة ابن عمر) و(ديوان سنجار). ويبدو أن هناك دواوين أخرى لكل مدينة أو قرية من أعمال الموصل، وترتبط بديوان الموصل الذي يمثل الإدارة المركزية، إلاّ أنّ المصادر لم تزودنا إلاّ بالنزر اليسير من المعلومات عنها.