16 مايو، 2013
لورنس العرب بين الحقيقة والخيال
ربما تكون شخصية (توماس ادوارد لورنس) المعروف باسم لورانس العرب، من اكثر الشخصيات إثارة للجدل، بسبب سلوكه الشخصي والظروف التي برز فيها في خضم الأحداث التي مرت بها المنطقة العربية والجزيرة العربية والشام بشكل خاص في مطلع القرن العشرين ومشاركته في الثورة العربية الكبرى سنة 1916.فقد كتب عنه ما يزيد عن 900 مقالة باللغات المختلفة، ونسجت حوله الأساطير وجعلت من شخصيته شخصية خيالية، مليئة بالألغاز والتناقضات في حقيقتها وليس من السهولة النفاذ إليها، والخروج بحكم صائب عنها، كونه شخصية مزاجية وانعزالية وتناقضية ، كتومة وتعتمر فيها المشاعر المتناقضة. حيرت الباحثين والمؤرخين والمحللين على مدى يزيد عن الثمانية عقود.هذه الأسئلة والمداخلات ومحاولة الولوج إلى سبر أغوار شخصية لورانس، تعرّض لها خبير الترجمة الدكتور حسيب حديد في كتابه الذي صدر عن دار الكتب العلمية ببيروت 2013 في طبعته الأولى باللغة العربية، والكتاب هو في حقيقة الأمر مقتبس عن أطروحة الدكتوراه التي تقدم بها الى جامعة بواتييه في فرنسا سنة 1985 واعتبرت واحدة من عشر أفضل اطاريح في الجامعات الفرنسية لسنة 1985، إذ تبنت طبعها جامعة ليل الثالثة على نفقتها وقامت بتعميمها على جميع المكتبات الفرنسية، ووقع الكتاب بـ 174 صفحة من الحجم المتوسط، تناول فيه إلى جانب المقدمة والتمهيد ثلاثة فصول، عالج الفصل الأول "لورنس العرب" ومحطات عديدة في حياته وولادته ونشأته ورحلاته الى الشرق وعمله في مجال الآثار وقسم الخرائط في مصر وتعلّقه بالشرق. وتم التطرق الى لورنس واللغة العربية ثم لورنس والملابس العربية في حين قدم الفصل الثاني الذي يحمل عنوان "دور لورنس التاريخي" تحليلاً دقيقاً وموضوعياً للدور الذي اداه لورنس في الثورة العربية. فقد ناقش المؤلف مجيء لورنس الى المنطقة العربية ودوافع مجيئه والأسباب الكامنة وراء ذلك وعلاقته مع "داهوم" التي كان لها اثر كبير وتأثير عميق في شخصية لورنس ونفسيته، وألقى الضوء ايضاً على القصيدة الاستهلالية ذات اللغز المعروف (S.A)، وتصرف لورنس مع القادة العسكريين البريطانيين مع التركيز على حقيقة دور لورنس والأسطورة التي حيكت حوله.اما الفصل الثالث الذي يحمل عنوان "أعمدة الحكمة السبعة" فإنه ناقش كيفية كتابة "أعمدة الحكمة السبعة" وفقدان المسودات الأولى لها وإعادة كتابتها لأكثر من محاولة. كما تطرق الفصل الى الأسس الرئيسة الأربعة التي اعتمدها لورنس في كتابه الأعمدة وهي "رحلات في الجزيرة العربية" لشارلس دوتي "الحرب والسلام" لتولستوي و "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه واخيراً "موبي ديك" لهيرمان ميلفيل، حيث وجد الأسس الأربعة المتمثلة بالموضوع والملحمة والأساس الفلسفي واخيراً إرادة القوة. وقدم الفصل ايضاً تحليلاً معمّقاً للصراعات التي عانى منها لورنس على ضوء ما ذكره في مؤلفه، وخاصة الكشف عن الذات والصراع الحضاري والصراع بين الروح والجسد والرغبة في الموت، فضلاً عن الجوانب الأدبية التي ازدان بها كتابه مع التركيز على تحليل شخصية لورنس من خلالها.وختم الدكتور حديد كتابه بجملة من الاستنتاجات ولعل الاستنتاج الأكثر أهمية هو دور لورنس التاريخي والأسطورة التي نسجت حوله واستنفار الماكنة الإعلامية منذ اللحظة الاولى، التي برز فيها للوجود ومنذ مشاركته في الثورة العربية وبعدها وحتى موته، الموتة الغامضة المحيّرة المليئة بالألغاز وكثير من التأويلات التي لم تتوصل الى نتيجة نهائية حتى يومنا هذا على الرغم من مرور قرابة (67) عاماً على نهايته المأساوية، بحادث كثرت تأويلاته وتشعّبت تفاصيله وكان في الساعة 11.35 دقيقة من صباح يوم السبت الموافق 13/5/1935 بعد حياة ملؤها الألغاز والأساطير والتعقيدات والشبهات دامت (46) سنة و(6) أشهر و(9) أيام. فقد عمل الإعلام على خلق هالة كبيرة وأسطورة لاتصدق حول لورنس وأطلقت عليه تسمية عرفت خطأ في بلاد العرب بـ "لورنس العرب" فالتسمية الحقيقية هي "لورنس الجزيرة العربية" ولكنها ترجمت خطأ وهكذا شاء بها. من كل ما تقدم من تفاصيل وتحليلات ومناقشات لكل ما يتعلق بلورنس يمكننا القول ان لورنس لم يكن بلورنس وبحقيقة شخصيته ودوره –ويذكر الدكتور حسيب حديد ان لورنس لم يكن تلك الأسطورة إنما كان احد الأشخاص الذين عملوا في فترة معينة وفي ظرف معين وليس من الممكن ان يعزى كل شيء الى لورنس وحده، حتى الانجازات العسكرية على الرغم من انه لم يكن عسكرياً بالمفهوم المهني والعسكري، إذ لم يتلق أي تدريباً عسكرياً لكي يمنح رتبة "عقيد" في الجيش البريطاني وكان الأجدر بصناع السياسة البريطانية ان يجعلوا منه مستشاراً مدنياً للجيش البريطاني إلا ان الضرورات المحتمة أجبرتهم على منحه رتبة عسكرية ليست قليلة لتنفيذ مآربها، وليس من الإنصاف والعدالة إعطاء لورنس هذه الهالة الضخمة ونسج اسطورة عملاقة حوله بحيث أننا لانعرف الكثير عن الضباط الحقيقيين الذين قاموا بالمهام في ذلك الوقت من امثال الجنرال اللنبي ويونغ وغيرهما. حتى ان الماكنة الاعلامية اطلقت عليه تسميات مثيرة للجدل فقد جعلت منه "صانع الملوك" و "متوج الملوك" و "الملك غير المتوّج للعرب" وغير ذلك، وكأنما لا وجود لغيره في الجزيرة العربية في ذلك الوقت.وبناء على ذلك فإن ما يمكن قوله هو ان الحاجة التاريخية وغيرها زجت لورنس في خضمّ احداث عنيفة ومفصلية في تاريخ المنطقة لكي يكون اداة مسخّرة بيد قوى خفيّة وسرّية تحكم العالم آنذاك. كما ان عجلة التاريخ لم تتوقف لو لم يكن للورنس وجوداً ولو لم يكن موجوداً فعلاً لاستعاضت بشخص آخر ولكنه ربما لايمتلك الصفات والمؤهلات التي انفرد بها لورنس لأنه امتاز بصفات ومؤهلات ربما لاتتوفر في غيره وقام باستثمارها وتوظيفها من أجل بلوغ الأهداف المنشودة. ومن الأهمية بمكان –كما يشير الدكتور حديد- ان هذه المؤهلات اضافت دعماً لتلك القوى الخفية لكي تنفذ مخططاتها على الوجه الامثل. وبناء على ما تقدم فان لورنس وبسبب هذه الهالة والأسطورة التي لا يزال الكثير يتحدث عنها كلّما ذكرت المنطقة العربية وكلما عصفت بها الرياح العاتية بقي طوال هذه الفترة بين الحقيقة والخيال. واخيراً فإن الأسطورة التي نسجت حوله لم تكن مبنيّة على دوره الحقيقي الذي قام به وإنما كانت مبنيّة على ما يعتقد الآخرون انه فعله وأداه.ولابد من الإشارة الى هذا الكتاب عند قراءته يحقق غاياته المتعلقة بمتعة القراءة ودراسة شخصية لورانس في جوانبها المتعددة، وقد وفق المؤلف الى حد كبير في تفكيك نصوص كتاب (أعمدة الحكم السبعة) بما يميط اللثام عن جوانب متعددة واراء وطروحات تتمحور حول شخصية لورنس، وجاء ذلك البحث وفق المنهج العلمي الأكاديمي وبلغة عربية سلسة ورشيقة خالية من الصنعة والتكلّف. وهكذا هو المؤلف الدكتور حسيب حديد في العديد من مؤلفاته ومعالجاته في علم الترجمة وموضوعاته الشيقة متمنياً له كل التوفيق، بقي ان أعرج على سيرته العلمية بشكل مقتضب فهو من مواليد الموصل 1950. ويتقن اللغة الفرنسية والانكليزية وقليلاً من الروسية. وهو أستاذ مساعد في كلية الآداب جامعة الموصل. واختصاصه العام الادب المقارن. واختصاصه الدقيق دراسات انكليزية باللغة الفرنسية. حاصل على بكالوريوس ودبلوم عالي لغة انكليزية. ودكتوراه ادب مقارن (انكليزي – فرنسي) من جامعة فرانسوا رابلييه وجامعة بواتييه – فرنسا. والف 4 كتب. وترجم 10 كتب. ونشر العديد من الدراسات ومئات المقالات المترجمة من اللغتين الانكليزية والفرنسية. وهو عضو جمعية المترجمين العراقيين. وهو مترجم محلف وخبير قضائي مخوّل في الترجمة باللغتين الفرنسية والانكليزية. مجاز من مجلس القضاء الاعلى ومعتمد لدى رئاسة محكمة استئناف نينوى الاتحادية في العراق.