19 مايو، 2013
مهنة الدباغة في الموصل
جاءت مفردة الدباغة في معاجم اللغة العربية من الفعلالثلاثي(دَبَغَ) الأديم دبغاً ودباغة ويدبغه وأديم مدبوغ والأديم في دباغه وفي دبغه ومنه مهنة الدباغة أي دباغة الجلود حسب الزمخشري في كتابه أساس اللغة و الزبيدي في تاج العروس،أما الدباغة(Tanning)من الناحية الاصطلاحية فهي تحويل جلد الحيوان المنزوع إلى مادة غير متعفنة وقليلة المسامات ، وجاء فضل الدباغة في تطهير الجلود في حديث نبوي شريف نقله لنا ابن عساكر في تاريخه في سند طويل يرتفع إلى عطاء بن يسـار عن عائشـة أن النبي صلى الله عليه وسلـم قـال ( طهور كل أديم دباغه ) وهو ما يضطلع بهالدباغ(Tanner) فهو من يقوم بدباغة الجلود ، أما المكان الذي تمارس فيه عملية الدباغة فهو المدبغة(tanneries).وتعد دباغة الجلود من أقدم المهن التي عرفها الإنسان منذ أن تكونت لديه ملكة التفكير، وفيما يبدو فأن معرفة الإنسان للدباغة كانت في بادئ الأمر تعتمد على قيامه بسلخ جلود الحيوانات الكبيرة ويلتف بها كما هي ، ونظراً لأنها كانت تتعفن وتتلف بسرعة ، فضلاً عما ينبعث منها من رائحة كريهة فقد اخذ يبحث عن شيء يتغلب به على هذه العيوب وربما يكون قد توصل في النهاية إلى استخدام أجزاء من بعض أنواع النباتات في عملية الدباغة.وقد عُرفت الدباغة في بلاد آشور والتي كانت عاصمتها نينوى المقابلة لمدينة الموصل من خلال ما وصلنا من نصوص أكدت على ما تمتع به الآشوريون من مهارة ًفي مهنة الدباغة وليس أدل على ذلك من كونهم كانوا يحصلون على الجلود من الحيوانات المذبوحة والتي تشمل ما يقدم من حيوانات كهدايا للنذور وقرابين إلى الآلهة في المعابد أو ما كان ينحر في الولائم الملكية .وتشير كلمة أشجب (Ašgab)الى الدباغ عند الآشوريين ، ويبدو أن الدباغ كان قد احتل مكانة مهمة في المجتمع الآشوري طالما كان يلبي رغبات الناس في تلبية احتياجاتهم من الجلود المدبوغة ، ولا يفوتنا القول أن الدباغة كانت تعتمد آنئذٍ(ولازالت) على الحرفيين المتخصصين بدباغة الجلود وصناعتها ، والنصوص التي تكلمت عن دباغة الجلود في بلاد وادي الرافدين عموما وبلاد آشور على وجه الخصوص كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها في هذه الورقة إلا أن الباحث انتقى نصا وردت فيه كلمة الدباغ بعبارة صريحة تدل على أن مهنة الدباغة كانت موجودة ورائجة في بلاد آشور، إذ جاء في النص " 1100 جلود مسلوخة من المستودع تحت تصرف الدباغ " ويتضح من هذا النص أن هناك فرقا بين الجلود القديمة والجلود الجديدة السلخ بدلالة ورود كلمة " مسلوخة " في سياق النص والتي تشير إلى أن عملية سلخ الجلود وتهيئتها للدباغة كانت تعتمد على جلود الحيوانات المذبوحة حديثا. وقد استمرت مزاولة مهنة الدباغة في العصور الإسلامية وخصوصا بعد تمصير مدينة الموصل في العهد الراشدي ، وما لاقته المدينة من عناية الخلفاء الأمويين وولاتهم على المدينة غدت الموصل قاعدة وعاصمة لإقليم الجزيرة وتطور عمرانها وأسواقها وتجارتها وصولا إلى القرن الرابع الهجري/القرن العاشر الميلادي، إذ ذكر المقدسي صاحب كتاب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) ضمن سياق كلامه عن دروب مدينة الموصل انه كان هنالك " درب الدباغين " ، وتذكر الدكتورة فيان موفق رشيد في دراستها عن خطط مدينة الموصل في العصور الإسلامية في تعليقها على نص المقدسي انه كان لابد للدباغين أن يتخذوا مدابغهم على نهر دجلة لعملية تنظيف ودباغة الجلود وما يتبع هذه العملية من انبعاث روائح كريهة فهي ترجح وجود مدابغ قرب النهر، ويرى الأستاذ سعيد الديوه جي في كتابه تاريخ الموصل ( في جزئه الأول) ضمن تعليقه على نفس النص أن الدرب كان يؤدي إلى محل الدباغة وكان الدباغون يسلكونه فعرف بهم ، ولا نعلم بالتحديد أين يقع هذا الدرب في الوقت الحاضر؟ أما في العصور الحديثة فجاءت الإشارات عن الدباغة من خلال كتابات الرحالة الأجانب الذين زاروا مدينة الموصل بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر الميلاديين ، ومن بينها ما أشار إليه الرحالة اوليفييه إلى أن مدينة الموصل امتازت بصنع السختيان وهو نفيس جدا وله شهرة واسعة ، ويذكر سعيد الديوه جي في كتابه تاريخ الموصل ( الجزء الأول) أن السختيان هي الجلود الموصلية الشهيرة ، ويضيف سهيل قاشا في كتابه الموصل في القرن التاسع عشر في تعليله لمفهوم السختيان بأنه الجلد الرقيق الناعم الفاخر والغالي الثمن والجيد الصنع ، وأكمل بأن السختيان كان يستخدم للإنتاج المحلي ومنه ما يصدر إلى حلب في سوريا ومنها إلى مرسيليا في فرنسا ، وأشار الرحالة دوبريه الذي زار الموصل في بداية القرن التاسع عشر أن جلد الماعز كان يستخدم في صناعة القرب التي تربط بالاكلاك أثناء السفر النهري والتي أطلق عليها الظروف ، ونظرا لتوفر المادة الأولية وهي الجلود فقد ساعد هذا الأمر على رواج مهنة الدباغة في القرن التاسع عشر فضلا عن وجود العديد من الدباغين المتمرسين بمهنة الدباغة حتى أن الباحثة الأمريكية سارة شيلدز ذكرت في بحث لها حول تجارة الموصل الإقليمية في القرن التاسع عشر والمعنون ب (Regional Tradeand 19th-CenturyMosul) إلى وجود ازيد من 19 مدبغة في الموصل ،فضلا عن وجود أزيد من 100 حرفي متخصص في الدباغة حسب إشارة د.سرمد علي الجميل في كتابه المعنون ب ( مقالات علي الجميل في الاقتصاد والتجارة) ، وانخفض هذا العدد مع بداية القرن العشرين وبالتحديد إلى مدبغتين حسب ما ذكرت نفس المؤلفة في كتابها المترجم للعربية والمعنون ب ( الموصل قبل الحكم الوطني ) ، ونلاحظ وجود تراجع كبير في أعداد المدابغ في الموصل وخصوصا بعد سقوط الدولة العثمانية وترك العديد من الدباغيين للمهنة بعد دخول الجلود الأجنبية الوافدة من الهند عن طريق البصرة في جنوب العراق ومنها لبغداد ثم إلى الموصل ، ومع بدايات القرن العشرين بدأ تشكيل النقابات المهنية فقد بادر بعض من أصحاب مهنة الدباغة إلى تشكيل جمعية الدباغيين التي شكلت في 18/10/1930، برئاسة خطاب عمر محمود الدباغ ،بعد موافقة وزارة الداخلية حسب أحكام قانون تشكيل الجمعيات لسنة 1922وهكذا بدأت الجمعية ممارسة نشاطها المهني في الموصل. ويذكر الأستاذ محمد توفيق الفخري (باحث ومهتم في تراث الموصل) أن المدابغ في الموصل قد تطورت وتركت الطرقة التقليدية في الدباغة ومنها ما ظهر في ستينيات القرن العشرين فذكر وجود شركة الدباغة العصرية ، وشركة الدباغة الفنية في منطقة الجوسق قرب المجزرة الحكومية حينما كان مندوبا عن شركة التأمين لمعاينة الأضرار التي حصلت للمواد الدباغية التي تردهم من الدول الأجنبية فضلا عن شركة دباغة الحاج يونس مقابل معمل السكر مجاورة للمطار العسكري وكانت المعامل أعلاه عامرة والعمل فيها مستمر ويصدر إلى الخارج . وإذا انتقلنا إلى المراحل التي تمر بها عملية الدباغة نجد أنها تبدأ بعملية السلخ وهي فصل الجلد عن جسم الحيوان بنزع الجلد مع الشعر والصوف أو بجز الصوف قبل ذبح الحيوان وتليها عملية الحفظ إذ بعد نزع الجلد بشكل كامل تملح الجلود وتنشر في الشمس حتى تتفسخ وتتأكسد المواد التي يحتويها الجلد وهي تمنع تعفن الجلد أما المرحلة الثالثة فهي التغطيس إذ يتم تغطيس الجلود في حفرة أو حوض فيه ماء وملح كي تتشبع الجلود بالأملاح لمدة معينة ، ثم يتم الانتقال إلى عملية التنظيف وإزالة الشعر وذلك بغطس الجلد في محلول اليوريا وأملاح الأمونيا حتى تتفسخ المواد العضوية الزائدة وبعدها يزال بعض بقايا الشعر أو الصوف باستخدام آلة حادة ،ثم تلوها مرحلة الضرب باستخدام العصي كي يمكن التخلص من تأثير الأنزيمات المعقدة التي تظهر على الجلد مثل بروز الانتفاخات غير المرغوب فيها كما كانت عملية الدق والفرك تساعدان في تحضير الجلود وإعدادها للدباغة ويتم تخزينها الجلود في مخازن خاصة قبل الشروع بدبغها . وكانت هنالك ثلاثة أساليب للدباغة حسب ما ذكرت د.سهيلة مجيد في أطروحتها للدكتوراه والموسومة ب (الحرف والصناعات اليدوية في بلاد بابل وآشور) وهي :1.الدباغة باستخدام بالزيت : وهي من أقدم الطرق واقلها استخداما وتتلخص بدهن الجلد الطري بالشحم والدهن ثم فرك الجلد ونشره حتى يفقد ببطأ رطوبته .2.الدباغة بواسطة الأملاح المعدنية : وهي الطريقة الأكثر شيوعا وتعد مادةالشب والنورة من أهم المواد المعدنية الدابغة وكان يمزج مع مواد أخرىكالملح وسلفات الصوديوم .3.الدباغة بواسطة المواد النباتية : حيث استخدمت مواد نباتية محلية منهاقشور الرمان المجففة التي تسمىالمدار وهناك مادة أخرى هي مادةالعفص الدباغية ، ومن المواد الأخرى مادةدِباغ أو الارطي زيادة علىقشر الجوز والشت(نبات عطري مر المذاق)ونبتةالدهناء الحمراء الدابغة. أماأدوات الدباغة فكانت بسيطة وتعددت من الأحواض والمقاشط والمرواح والتي تتكون من عصا خشبية تنتهي برؤوس مدببة من الحديد تستخدم لرفع الصوف أو الشعر الذي يطفو في الحوض. ولابد من القول أننا نجد أسماء كثير من الأسر الموصلية تنسب إلى الدباغ ( العمل الذي كانوا يمتهنونه) وكان معظمهم من متوسطي الدخل وقد برزت في الموصل ظاهرة تسمية الأسرة باسم الحرفة أو المهنة التي يحترفها أو يمتهنها أبناء هذه الأسرة والسبب في ذلك هو استمرار الأبناء في امتهان حرفة الآباء والتواصل فيها لقرون مثل بيت الدباغ حسب إشارة د.سجى قحطان في أطروحتها للدكتوراه والموسومة (الموصل في كتابات الرحالة في العصر العثماني)، ومن أشهر الأسر المنسوبة لهذا البيت في الموصل والتي عملت في مهنة الدباغة نجد على سبيل المثال لا الحصر بيت الحاج يونس الدباغ الذي كان يمتلك شركة للدباغة المذكور آنفا ، وبيت الحاج حميد طه الدباغ الذي عمل دباغا لسنوات طويلة وكان له محل لصناعة الجلود في باب السراي ، وبيت الحاج مجيد طه الدباغ وعمل دباغا وتاجر جلود مع سوريا ، وكذلك نجد بيت الحاج عبد الرزاق الحاج حسن الدباغ ، وبيت الحاج توفيق أيوب العارف الدباغ الذي كان يمتلك مدبغة وعمل لديه العديد من الدباغيين المحترفين ، والحاج عبد الرحمن أغا ابن الحاج مصطفى ابن عمر الدباغ الذي عمل هو وأولاده في الدباغة إذ كانوا يمتلكون مدبغة مستأجرة بعقد مساطحة، وأخيراعائلة الحاج نعمان الدباغ .