21 يناير، 2013
صناعة التحف المعدنية في الموصل
عرف العرب قبل الإسلام، مختلف أنواع المعادن كالذهب والفضة والحديد، فصنعوا منها حلياً وأواني ورماحاً ودروعاً وسيوفاً، واشتهرت بلاد اليمن في أنتاج التحف المعدنية، لاسيما الأسلحة، فكانت تصدر السيوف والخناجر وأدوات الحرب والصحائف المعدنية المصقولة. وأفاد العرب المسلمون مما كان لدى الأمم التي أخضعوها لسلطانهم في فنون وصناعات مختلفة، لذلك نراهم يبقون على تلك الفنون والصناعات التي كانت سائدة في الأقطار التي فتحوها، ولم يتعرضوا لها إلا بما يتعارض مع الدين الجديد، فبقيت صناعة المعادن بعد الفتوح الإسلامية في أيدي أهل البلاد، فاستمر صناع المعادن على أنتاجهم للتحف المعدنية وفق الأساليب التي كانت مألوفة لديهم قبل الفتح، ففي إيران والعراق، كانت الأساليب الساسانية. والمعروف أن الأساليب الفنية لأي دولة من الدول أو لأي عصر من العصور لا ينتهي بزوال النفوذ السياسي لتلك الدولة أو لذلك العصر وإنما تبقى الأساليب في مضمارها إلى حين الانتقال من الأساليب الفنية القديمة إلى الأساليب الجديدة. وفي مدينة الموصل، عرفت صناعة التحف المعدنية منذ القدم في بلاد مابين النهرين على الرغم من انه لم تصل ألينا تحف معدنية عن مدينة الموصل قبل القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، إلا انه لاشك أن تلك الصناعة كانت معروفة في تلك المدينة منذ العصور القديمة، بدليل ازدهارها في هذا الوقت، وقد اشتهرت مدن أشور ونينوى والحضر بصناعة المعادن كما أثبتت ذلك نتائج الحفريات الأثرية، فقد زين بها الأشوريون أوانيهم وأدواتهم وتحفهم وورث الصناع المواصلة عنهم هذه الصناعة، وأضافوا إليها ما تأثروا به من الصناعات الأخرى، واجروا عليها من عمليات التنقيح والحذف والإضافة، وابتكروا عناصر زخرفيةً جميلة مطبقة بالفضة والذهب، حتى صارت مدرسة الموصل في التطعيم قبلة الصناع، يأخذون عن أساتذتها ويحتذون حذوهم، وكانت تحفهم التي يبدعون في إنتاجها، مما يتنافس الملوك والمترفون في تزيين دورهم وموائدهم وطعامهم وشرابهم بها، وبقيت الموصل مدة القرنين السادس والسابع للهجرة، المرجع في هذه الصناعة. وعندما دخلت الموصل تحت سيطرة السلاجقة في سنة 489هـ/1096م ازدهرت على أيديهم الفنون والصناعات المختلفة، وكانت أزهى عصورهم أيام حكم أسرة اتابك زنكي بين سنتي 516-600هـ/1122-1262م وقد عرفت هذه الأسرة بتعضيدها للفنون والصناعات لاسيما صناعة التحف المعدنية التي تجلت فيها مهاراتهم في أشكال التحف وفي زخرفتها. والطابع الموصلي في الزخرفة تميز بكثرة الرسوم الآدمية والحيوانية كما كان يجمع بين الكتابة على التحفة بخطوط متنوعة، وتصاوير تمثل مظاهر الحياة والترف مثل مظاهر القنص والصيد واللعب بالكرة والصولجان ومظاهر فلكية وصور الحيوانات وغيرها، واستعمل الفنانون طرقاً في زخرفة التحفة وأجملها وأدقها هو التطعيم بالذهب والفضة، وهو ما ابتكره الفنان الموصلي وتأثر به غيره، وحاولوا تقليده، واستخدم التكفيت على نطاق واسع كأسلوب من أساليب زخرفة تلك التحف، وهذا مما اكسب تلك الصناعات جمالاً وإبداعاً عظيمين، وكان لمدرسة الموصل أكبر الأثر في تطور صناعة المعادن في سائر الأقطار الإسلامية، وهذا مما جعل علماء الآثار ينسبوا إلى الموصل كثيرا من التحف المعدنية التي يظهر عليها تأثير مدرسة الموصل. وكان يتعاون في إنتاج التحفة الواحدة عدة أشخاص، يقوم الصفار بعمل التحفة وصقلها، ثم يتولى الأستاذ نقشها، ثم يتولى الحفار حفر النقوش والصور، ثم تقدم إلى المُطعِّم، فيقوم هذا بملئ الحفر بالذهب والفضة، وكان يكتب على التحفة المعدنية أحياناً اسم الشخص الذي قام بعملها، واسم المدينة، وتاريخ العمل، ومن عملت له، ومن الأمثلة على تلك التحف المعدنية القناديل، والشمعدانات، والمباخر، وأدوات المناضد، والطشوت، والصواني، والمزهريات، وهي مزينة بزخارف نباتية وهندسية وتصاوير وكتابات بخطوط مختلفة. وقد ذكر المؤرخون والرحالة العرب اشتهار الموصل بصناعة التحف المعدنية، فقد أشاد القزويني بدقة أهل الموصل في صناعاتهم فقال:( وأهلها أهل تدقيق في الصناعات )، وعند رحلة الرحالة المغربي ابن سعيد إلى الجزيرة والعراق والموصل سنة 648 هـ /1250م قال، إن مدينة الموصل كانت فيها صنائع جمة لاسيما أواني النحاس المطعم التي كان يحمل منها إلى الملوك، ويظهر من قول ابن سعيد إن مدينة الموصل كانت على درجة كبيرة من الصناعة الفنية في ميدان إنتاج المعادن، أصبح الطلب على مصنوعاتها النحاسية يقرن بطبقة الملوك، والمعروف عن هذه الطبقة أنها تنفق الأموال الطائلة في سبيل الحصول على أنفس أدوات الأبهة والزينة، لذلك وجدوا في أواني الموصل النحاسية المطعمة ضالتهم المنشودة، ونستدل من ذلك أيضا أن إنتاج مدينة الموصل كان من الوفرة مما جعلها تكون على رأس المدن المنتجة والمصدرة لتلك الأدوات النحاسية، كما اشتهرت بصناعة التحف الذهبية ومنها القناديل، وظلت مدينة الموصل في طليعة المدن المنتجة للتحف المعدنية المكفتة خلال القرن السابع الهجري /الثالث عشر الميلادي. ومن مدينة الموصل انتقلت تلك الصناعة إلى مدن أخرى مثل دمشق والقاهرة على أيدي من هاجر من صناعها إلى المدن المذكورة، ومن ذلك على سبيل المثال، النقاش حسين بن محمد الموصلي وأبناؤه الذين انتقلوا الى بلاد الشام وعرفوا ونبغوا بصناعة التحف المعدنية ونقشها وتطعيمها وتكفيتها ونقلوا معهم الأساليب الفنية التي ألفوها في بلاد الموصل، فقد صنع حسين بن محمد الموصلي كثيراً من الأواني المعدنية للملوك الأيوبيين في الشام. وتم معرفة ذلك عن طريق التحف والقطع المعدنية التي بقيت، إذ كتب عليها اسم الشخص الذي نقشها واسم الحاكم الذي نقشت أو عملت له تلك التحف المعدنية، فضلاً عن مكان النقش والسنة. ومن هذه التحف المعدنية، إبريق من النحاس صنع في دمشق، كتب عليه (عز مولانا السلطان الملك الناصر. . . نقش حسين بن محمد الموصلي بدمشق، سنة سبع وخمسين وستمائة) وكذلك إناء نحاسي مكفت بالفضة وهو مما صنعه للملك الناصر يوسف الأيوبي أيضاً، عليه صور أدمية، وصور حيوانات ونباتات وفيه رسوم. وبعد سقوط الموصل سنة 660هـ/ 1258م هاجر أكثر الصناع الذين سلموا من فتك المغول إلى سورية ومصر واليمن، ونشروا صناعاتهم فيها وتركوا تحفا كثيرة، عليها أسماء صانعيها المواصلة، وتاريخ صنعها، والمدينة التي صنعت بها، وأكثر هذه التحف كانت في مصر لإقبال المماليك عليها، خاصة الملك قلاوون (678-689هـ/1279-1290م) فانه كان أكثرهم تشجيعا، واستقدم الصناع المختصين بها، وأجزل لهم العطاء فا نتجوا تحفا متنوعة، ثم سار خلفاؤه على هذا. فتأسست محلات في القاهرة يعمل فيها صناع مواصلة، وصار في مصر سوق خاص لصناعة التطبيق في النحاس والخشب عرفت (بسوق الكفتيين) ويرى بعضهم أن هذه الصناعة تسربت من مصر إلى مدن البحر الأبيض المتوسط في أوربا. ولابد من أن نشير إلى أن هناك العديد من العوامل التي جعلت مدينة الموصل تتبوأ هذا المركز الصناعي المهم في ميدان إنتاج التحف المعدنية وهي توفر المواد الأولية اللازمة لتلك الصناعة، وكان النحاس المادة الأساسية لها، وكانت الموصل على ما يبدو تحصل على تلك المادة من مدن الجزيرة الأخرى التي يكثر فيها النحاس، أضف إلى ذلك تشجيع رجال الدولة لهذه الصناعة والقائمين عليها، باقتنائهم ما يصنع من تحف معدنية مختلفة، منها ما كان يستعمل في المساجد من أدوات، ومنها ما كان يستعمل في المناول والقصور. وأخيرا لايجب أن تنكر مهارة الصانع الموصلي وقدرته الفنية التي كانت سبباً آخر من أسباب تقدم صناعة التحف المعدنية في مدينة الموصل. وإبراز طابعها الخاص وتميز خصائصها.