26 فبراير، 2013
الطب الشعبي في الموصل منذ أواخر العهد العثماني وحتى سنة 1958م
تعد دراسة الطب الشعبي في الموصل من الموضوعات القيمة في تاريخ مدينة الموصل في العهد العثماني، لما لها من اثر فاعل ومؤثر في حياة سكان المجتمع الموصلي، ولم تقتصر ممارسة الطب خلال تلك الحقب على الأطباء الاختصاصيين وحدهم، بل شمل الحلاقين والعطارين والذين كان اغلبهم يصفون المواد العطارية للسكان عند إصابتهم بالأمراض الباطنية والحمى فضلا عن الخاتنين الذين كان أكثرهم حلاقين، واشتهرت العديد من النساء الموصليات بالطب العطاري من خلال تقديم معالجات المواد العطارية للنساء.الطب العطاري يعتمد هذا النوع من الطب على النباتات والأعشاب والعقاقير الطبية في علاج الحالات المرضية، فالأعشاب تعد مصدرا رئيسا للغذاء إلى جانب المصادر الأخرى،وبعد أن اكتشف الانسان إن لهذه النباتات والأعشاب أهمية. وفائدة كبيرة قد لا تقتصر على الجانب الغذائي فقط بل شملت دورها العلاجي الكبير فقد يذهب المريض في هذه الحالة إلى العطار دون استشارة الحكيم إذ كان للعطار العديد من القوائم تحتوي فيها كل النباتات الطبية وميزتها تساعده في تحديد الدواء الملائم للمريض فهنا نلاحظ العطار أشبه بالصيدلي. وكان للعطارين سوق يبيعون فيه المواد العطارية ومن ثم يصفون الوصفات العطارية إذ يقع هذا السوق قريبا من سوق البزازين وتقع امتداداته القديمة ضمن قيصرية معظم محلاته إلى السوق الحالي حيث العطارين يستعملون أعشابا متنوعة وعديدة في معالجة العديد من الأمراض وكان بعض المرضى يأخذون أدويتهم المصنوعة من المواد العطارية من الأعراب الذين يتخذون من الأماكن المكتظة بالسكان مكانا لبيع أدويتهم العطارية وبأسعار رخيصة..ومن أشهر العاملين فيهذا المجال في الموصل الدكتور داؤد الجلبي 1879ـ1960م بمعالجة مرضاه بالطب العطاري، فوصف نبتة السعد في علاج احد المرضى الذين راجعوه عند أصابته بمرض ما فوصف لنبتة السعد كدواء فرفض المريض الوصفة وسافر بعد ذلك إلى أوربا للمعالجة، وهناك وصف له الأطباء بعض الادوية فشفي المريض وبعد عودته من أوربا عاد إلى الدكتور ليخبره بذلك فصاح به الدكتور قائلا له : "أتعلم أن هذا الدواء يحتوي على مادة الكربتزون الموجودة في السعد".ويمكن وصف علاقة الدكتور داؤد ألجلبي بالمرضى إذ كان يسودها جانباً من العطف والحنان والحرص الشديد وإطاعة ارشادته لان ذلك يمكن من شفاء المريض في المقابل فانه لم يكن ليحتمل التخلف والجهل وعدم دراية المريض لمجموعة من الأمور المهمة. ومن الجدير بالذكر أن أجور معاينته للمريض مع وصفة الأعشاب العينة المهيأة كانت غالية الثمن إلا انه قد خصص يوما لمعالجة الفقراء مجانا. أما الحكيم الأعور القاطن محلة الميدان إذ كان يعالج مرضاه بإلاعشاب وتعاونه في ذلك زوجته. وفي الحرب العالمية الأولى وما بعدها فقد اشتهر، الحاجان نعمان التكاي وابن عمه خليل التكاي في استعمال الوصفات العطارية ومن ابرز العطارين المعروفين في مدينة الموصل العطار عبد الله ميخا الحكيم والملقب بـ "الازاجي" أي صاحب الادوية. ومن ابرز الأسر المشهورة في مدينة الموصل بمعالجتها بإلادوية "آل عطار باشي " التي بدورها قد حملت لقب صنف العطارين فضلا عن بروز بعض من بيوت الموصل في هذا المجال ومن أبرزها بيت علاوي ومنهم،( قاهر علاوي، محمد حسين علاوي، طارق علاوي) اشتهرت ببيع الادوية العطارية إذ كان الإقبال عليهم من قبل الأهالي بشكل مرضي وجيد. لم تقتصر ممارسة الطب العطاري على المسلمين بل شمل العديد من الطوائف منها اليهود والنصارى إذ برز من اليهود في مدينة الموصل، العطار يحيى الغزال،العطار منشى, العطار يحيى النيل والذي غادر الموصل متجها إلى فلسطين سنة 1948م(12).ومن اليهود الذين اشتهروا في بيع المواد العطارية في الموصل أبراهام ساسون،معلم سليمون، عزيز شوبي، صالح رحيم، ويحيى الأحمر ولم يقتصر دور اليهود على بيع المواد العطارية بل شمل مجالا آخر بمعالجة بعض الإمراض ومنها حبة بغداد من خلال وضع شبكة بيت العنكبوت في قطعة قماش ووضعها على موضع الإصابة، فضلا عن التهاب الكبد والمعروف بـ (أبو صَفار) وسببه اضطرابات فايروسية في الكبد، ومن أعراضه وعلاماته شحوب الوجه واصفرار في بياض العينين، وينصح المريض المصاب بهذا المرض بتناوله السكريات وشرب ما هو سائل ومنها شرب ماء عين كبريت. أما الطائفة الأخرى فهي الطائفة النصرانية وبرز منهم في القوش القس كادو (1892-1971م) والذي برز بين أبناء منطقته بخبرته في التداوي بإلاعشاب.كما واشتهر أيضا الشقيقان حنا رزوقي توما (1903-1982م) وجبرائيل رزوقي توما (1905-1964م) في القوش أيضا بمعالجة أعراض الخوف والصدمات النفسية ومن ثم معالجة العيون ولابد من الإشارة إلى أن هذه المهنة كانوا قد ورثوها من والدتهم السيدة مريم السعرتية.الطب القرآني يعتمد هذا الطب على الرقية والتعاويذ والأحجبةيعني علاج المريض روحيا (مع روحه وليس جسده) فقد اتخذت الرقية الطابع الديني وذلك باستعمال الآيات القرآنية (آيات القرآن الكريم) علاجا وشفاء للمريض ومن ابرز وأشهر العوائل الموصلية التي مارست الرقية بهذا المجال هي أسرة الحاج صالح أفندي الجبار (1860ـ1933م) والذي بدوره اشتهر وبرز في رقية مرض (أبو صفار) وعرق النساء إذ كان يستقبل في داره بمحلة النبي جرجيس وكذلك بمحلة باب السراي إذ كان معروفا بكونه تاجرا لمادتي السكر والشاي ومارس أبنه أحمد (1920-1993م) الرقية عن أبيه إذ كان من دون اجر خالصة لوجه الله تبارك وتعالى، وبرز أيضا الشيخ عبار (1855-1961م) بالرقية ومعالجة الأهالي من مرض (أبو صفار) والراقية على الحليب واللوز لمن انقطع حليبها والتشنج العضلي وكان الأهالي يفدون عليه بكثرة إذ كان يعمل ببيع المأكولات في منطقة الميدان وكانت رقيته خالصة لله تبارك وتعالى وبرز أيضا الحاج عبار ياسين حسين العبار بالرقية على الأمراض السابقة الذكر كما واشتهر في الرقية على (أبو الصفار) فتحي الحاج حسن الحمو الطائي (1864ـ1953م) وأبنه محمود (1905ـ1980م) والملقب بـ (أبن العلم) وكان يرشد وينصح المصاب بتناول الزبيب الأحمر وشرب الماء المحلى بالسكر، وكانت رقيتهم ابتغاء لوجه الله تبارك وتعالى وفي مرض المخبث فقد برزت عائلة السيد توحي بالرقية على المخبث في الموصل وخارجها أما في حالة الإصابة بالتشنج العضلي، فقد اشتهرت أسرة البرذعجي فبرز جد العائلة والمدعو الملا إسماعيل بالرقية على الآم التشنج العضلي ومن ثم فبرز السيدان عبدالله والسيد سيدوش بالقراءة على الفالول.الطب الجراحي بقى الحلاقون حتى منتصف القرن العشرين، جراحوا ذلك الزمان، على الرغم من زيادة عدد الأطباء الجراحين، فقد بقيت الحلاقة صنفا من الأعمال الصحية التي يمارسها الحلاقون، وغالبا ما كانوا يحرصون بل يتنافسون على نظافة صالوناتهم وتوفير مستلزمات الحلاقة من العطور والمواد المعقمة لعلاج الخروج التي قد يحدثها موسه في رقبة زبونه أو وجه ويقوم الحلاق بالأعمال الجراحية كالختان والحجامة وقلع الأسنان ولهذا فقد أطلق على الحلاق في تلك الفترة اسم الجراح وقد كان لدى بعض الحلاقين قوارير فيها ديدان تسمى (دودة العلق) إذ توضع تلك الدودة على الجروح, فتمتص الجراح وتندمل، فضلاً عن ذلك فقد استخدمت تلك الديدان لمعالجة ضغط الدم، إذ توضع كمية من الديدان على أفخاذ وظهور المصابين لمص دمهم أما قلع الأسنان فكان يتم بوضع (الكلابتين) على السن من دون وضع مادة مخدرة على السن المراد قلعه، وكثيرا ما يؤدي إلى حالات النزف الشديد و من الحلاقين في الموصل على سبيل المثال لا الحصر الجراح عبد الباقي بن حسن بن عبد الله (1838-1928م) وكان يقطن محلة سوق الصغير، إذ كان متخصصاً في قلع الأسنان وضماد الأطفال ومداواة الجروح والكسور وتتلمذ على امهر المتطببين في الموصل وجراحيها أمثال عبد الله الشلش واحمد بن محمد الجلبي إذ قام بإجراء عمليات جراحية كبرى في البطن والكسور مستخدما الالآت التقليدية المتوارثة وبالعقاقير العربية، فضلا عن الكتب الطبية القديمة. واشتهر عدداً من الحلاقين بالطهور أو ما يعرف (بالختان), ويعني قطع قطعة من الجلد التي تغطي الحشفة عند الذكور، وبخاصة في السنين الأولى من عمر الطفل، لكي لايجتمع بعض الأوساخ فيها، والختان يعد سنة نبوية وعلى هذا الأساس، فيجب على المسلم أن يختن. وكان قسم من الختانين قد نزحوا مهاجرين من تركيا من منطقة (سعرت) إذ كانوا يزورون الموصل (على اعتبار إن الموصل جزءاً من العراق) في أواخر فصل الصيف وهو موسم الختان في الموصل ومن امهر الختانين في الموصل السيد حمو الحلاق وابنه مجيد سيد حمو سيد نجم (1900-1987م) اكتسب شهرة كبيرة وذاع صيته في العشرينات بوصفه مضادا مشهورا في معالجة الكسور والحروق والجروح والأمراض الجلدية والختان. وفي 18 تشرين الاول عام 1946م أقيمت حفلة ختان أطفال الميتم الإسلامي، وبتكليف من رئاسة صحة اللواء وبإشراف الأطباء عبد الله سرسم وعثمان احمد وعبد الوهاب حديد على ختن ما يقارب (65) طفلا، وكان من الحاضرين كل من محافظ لواء محافظة الموصل مصطفى اليعقوبي، ولم يقتصر الختان على المسلمين بل شمل الطائفة اليهودية إذ مارسوا هذه المهنة أيضا، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن الطهور لدى اليهود كان واجبا دينيا أيضا كما جاء في تعاليم الدين الإسلامي، لهذا فقد كان اليهود يقومون بختان الأطفال من المسلمين ويدعى الشخص الذي يختن الأطفال ب(المعلم) وهم ماهرون وبارعون في عملية الختان يقتنعون بالمختونين ويقومون بزيارتهم في اليوم الذي يلي الختن وتحديدا في اليوم الثاني والثالث من عملية الختن خشية عليهم من حصول مضاعفات وأشهر من مارس مهنة الختان في الموصل من اليهود الموشي حاخام وكان من رجال الديانة اليهودية. ومن امهر الذين اشتهروا بمعالجة الكسور في الموصل فاضل مصطفى عبدالله الحمداني والمكنى بـ (أبو عزت) 1908-1991م إذ كان يعالج الكسور من خلال وضع صفار البيض على القماش ومن ثم يلفها على الكسر ليصبح كمادة الجبس وبعد ذلك يحيط الموضع المكسور بالقصب ويشده بالخيط, ويقطن محلة باب لكش، وبعد ذلك انتقل إلى محلة باب الجديد ومارس مهنة التجبير أيضا أخيه عبد الغني مصطفى عبد الله العبد الله (1890-1990) إلى جانب عمله في معمل النسيج، وفي بيته الكائن في محلة سوق الشعارين وبعد ذلك في محلة المحطة وبرز في معالجة الكسور أيضا بيت ساري وبيت عبد الحلوصة، والسيد سليم الحداد في محلة باب لكش حيث كانوا هؤلاء الثلاثة الأنف ذكرهم يصنعون الجبيرة من بياض البيض والجبس وخلطها بقطع الشاش ووضعها على الموضع المكسور لفترة زمنية قد تتراوح مدة (40- أربعين يوما) على اليد والرجل المكسورة. وبرز الحاج محمد خضير سليمان الدبلاوي (1875-1975م) بعلاج فقرات الظهر بالسحب، إذ كان من عشيرة البكارة وكان يمتهن المهنة في بيته ومن دون اجر ابتغاء لوجه الله تعالى, فضلا عن رقيته لمعالجة ( أبو اللوي) المعروف علميا بالتهاب العصب السابع، وقد ورث المهنة ابنه قاسم محمد خضير سليمان الدبلاوي (1900-1990م) منذ شبابه فكان الأهالي يقبلون عليهم كثيرا من داخل الموصل وخارجها (32) واشتهر يونس جاسم (1904-1990م) بمعالجة لحروق إلى جانب مهنة (الصياغة) إذ أستخدم شمع العسل وزيت السمسم في معالجة الحروق. أما في مجال الكي فقد استخدم المتطببون الجراحون الكي بحديدة محمية أو بحجر محمى لمعالجة أمراض المفاصل فضلا عن معالجة القروح والجروح ومعالجة أمراض المفاصل فضلا عن الم الرأس حيث شاع استخدام الكي عند البدو أكثر من سكان الحضر وهو يمارس عندهم حتى يومنا هذا إلا إن الكي ينفع في بعض الأحيان ويضر في أحيان أخر لأنه يتوجب على الشخص الذي يستخدم الكي أن يكون من ذوي الخبرة والدراية في هذا الجانب وقد يكونوا قد تلقوا تدريباتهم بمهارة، فللكي أماكن ومواضع خاصة في الجسم وان أي خطأ في عملية العلاج يمكن أن يشكل خطورة جسيمة على حياة المريض. أما الحجامة، فتدعى هذه الطريقة ب(كاسات الهواء) وتعد من طرائق الاستطباب المعروفة عند العرب شانها شان الكي،" والحجم لغة المص، وسمي به فعل الحاجم، لما له من مص الدم "في موقع الشرط والحجامة كانت تمارس قبل الإسلام وبعده حيث أشارت الأحاديث الشريفة عليها، ويروي لنا أبي هريرة عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إنه قال (إن كان في شئ مما تداوون به خير فالحجامة), ولابد من الإشارة هنا ما للحجامة من مواضع خاصة في الجسم ويشترط على القائم بها أن يكون من ذوي الخبرة والدراية في وضعها على الجسم لا تشكل خطورة على المريض).