3 أبريل، 2013
ألعاب الأطفال وأغانيها في الموصل منتصف القرن العشرين
اللعبة المصحوبة بأغنية هي مجموعة من الحركات الإيقاعية المنتظمة يؤديها مجموعة من الأطفال تساعد في إحداث تفاعل الطفل مع عناصر البيئة المحيطة به. ويبدو أن هذا النوع من الالعاب يشكل أداة للتعبير والتواصل بين الأطفال, ويساعدهم على تنشيط القدرات العقلية والموهبة الإبداعية. إذ تعد الألعاب الشعبية من أهم أنواع الفنون الشعبية لأي أمة من الأمم, فهي من أقدم مظاهر النشاط البشري, وهي أول صورة لنشاط الإنسان في طفولته. كما أنها صدىً لانفعالاته ومعرض ملذاته وفرحه, وهي انعكاس لصورة الحياة. وأغلب الظن أن أصول الالعاب الشعبية قد يلقي الضوء على علم السلالات البشرية, إذ تنفرد كل ثقافة ومجتمع بمجموعة من الألعاب التي تناولتها الشعوب والأجيال عبر الزمن, ويطلق عليها بـ(الألعاب الشعبية)، وربما تساهم هذه الالعاب في نقل بعض الخصائص الثقافية والحضارية التي تراعي التقاليد والعادات, وهي مرآة صادقة للحياة اليومية البسيطة، فمن خلال انتقالها عبر الأجيال يتم نقل نماذج الحياة في البيئة بطابعها وتقاليدها ونظامها. إن الألعاب الشعبية عديدة ومتنوعة, وتعتمد على عدد المشاركين فيها أو الفصول التي تمارس خلالها, والطرائق التي يتم إتباعها, فنجد ألعابا جماعية وأخرى فردية, كما نجد ألعابا فكرية وأخرى حركية. فألعاب الأطفال هي أول مدرسة اجتماعية يدخلهُا الطفلُ ويجتازُ من خلالها تجاربه الأولى في حياته, وهذه الألعاب وإن بدت في ظاهرها ترويحية ورياضية, إلا أنها ذات فوائد قيمة للطفل والمجتمع كونها وسيط للتطبيع الاجتماعي تُمكن ُالطفل من الانسجام مع الأطفال الآخرين ويشاركهم نشاطاتهم ويتعلّم من ذلك كله كيف يُقوم نفسُه ويقُّدرها بواقعية من خلال عقد مقارنة بينه وبين زملائه المشتركين معه في اللعب. فلو استعرضنا ألعاب الأطفال وأغانيها في الموصل لوجدناها جزأً لا يتجزءا من ثقافة المجتمع, عاداته وتقاليده وقيمه ومفاهيمه, فلا عجب أن يتأثر بها الطفلُ, ومن هنا نجد مسوغا لتوارث الأطفال بعض الألعاب عن أجيال سابقة. لكنني أميل إلى أن الأطفال حين يجتمعون للعب فإنهم يريدون أجواء خاصة تسودها علاماتٌ ورموّز طفولية بعيداً عن عالم الكبار الصارم. فاللعب ظاهرة طبيعية وفطرية له أبعاده النفسية والاجتماعية، وهو نشاط يمارسه الطفل دون أية ضغوط عليه من البيئة المحيطة به والمتمثلة في بيئته العائلية والاجتماعية والطبيعية.ولعل ارتباط العاب الأطفال بالأغاني يفيد البحث عن القيم الفنية الموجودة بتلك اللعبة المصحوبة بالأغنية كونها تؤدى تلقائياً وبصورة ثابتة متكررة، وهذا يدل على العلاقة الوثيقة بين النص واللحن والحركة والإيقاع, إذ يرتبطان بأسلوب واحد. وهذا بدوره يمكن ملكة الإبداع عند الطفل.إن اللعب عند الأطفال من أقوى الدوافع لعملية الإبداع والخلق, فنرى خلق أغان فورية تبدأ بسيطة ومن ثم يُزادُ عليها حتى تصبح ألعاباً كاملة ثم تنقل من جيل إلى جيل بالتوارث، ولو استقصيناها في مدينة الموصل لوجدناها كثيرة، ومن أمثلة ذلك أغنية لعبة: "أم الريث": يمُ الريث ريثينا لولا المطر ما جيناصبونا بالطبشي صبُحْ ولدكم يمشيصبونا بالغربال صبح ولدكمْ خيال.إن هذه اللعبة موسمية تلعبُ شتاءاً فقط, وتلعب عندما تقل الإمطار أو تشح تماماً, فيدور الأطفال وبيدهم (لعبة قماشية أو خشبية) يدورون بها علَى الدور طالبين من أهلها أن يرشوها بالماء, وكأنهم بذلك يريدون هطول المطر, محاكاة للكبار في طلبهم للاستقاء, فجعلوا من (اللعبة) معادلاً موضوعيا للتبلل بماء المطر. ولا يبرحون الدار إلا بعد صب الماء, ويقولون (لولا المطر ماجينا) (صبونا بالطبشي صبح ولدكم يمشي) يقولون ذلك وكأنهم يريدون القول بأن الماء هو أصل النماء, إذ جعل الولد يمشى ويصبح خيالاً. ويمكن أن نربط هذه الأغنية بمسار أسطوري ونحيلها إلى (عشتار) آلهة الخصب والنماء, والمسار الإسلامي المتعلق بالاستقاء من السماء. وعندما تشرق الشمس ينشد الأطفال: طلعت الشميسة على كبر عيشةعيشة بنت الباشا تلعب بالخرخاشهصاح الديج بالبستان الله ينصر السلطانمن خلال ما لمسناه وقراناه في النصوص الغنائية, نجد أن الطفل يغني دون أن يعي ما يقول بشكل متكامل, فهو لا يلجأ إلى التفتيش عن المعنى بقدر ما يفتش عن اللحن الموسيقي والقافية وهذا بالطبع ما يناسب حركة اللعب. ولعل صياح الديك مرتبط بالدعوة إلى تقبل ولي الأمر وهو (السلطان). فالألعاب الشعبية متنفساً حقيقياً للطفل, وطريقة لبذل المجهود والطاقة, فأغلب الألعاب الشعبية إن لم نقل كلها تعتمد على الحركة والمهارات البدنية، وهي فرصة يتمكن الطفل من خلالها اكتساب مهارات وحركة تطور قدراته البدنية. لذلك نجد أن العاب البنين تختلف عن العاب البنات، فجاءت العاب البنات معبرة للواقع الاجتماعي الذي كان يمنع البنات من مزاولة الألعاب مع البنين وبالعكس. فإذا ما انفرد لاعب باللعب مع الفتيات لوحده دون الآخرين، أو انه يحاول إن يلعب معهم بشكل مستمر نرى اقرأنه يلاحقونه وهم يغنون ويدقون: حواوا حواواحواوا شقوا دفوكل البنات بصفوواغلب الظن أن كلمة (حواوا) هي تحريف كلمة (حواء) فهم يعيبونه لأنه أصبح أنثى، فيمتنعون من اللعب معه حتى يترك اللعب مع البنات وقد يقاطعونه مدة طويلة عقاباً له.وتأتي العاب البنات أكثر رقة واقل خشونة وعنفاً من العاب الأولاد، الذين كانت ألعابهم تتطلب مهارة بدنية عالية كالركض المتواصل، واقتحام الأزقة المظلمة، وتسلق الأشجار. فمن ألعاب البنات والتي تؤدى جماعية لعبة (كشك وعدس) إذ تصطف البنات واحدة تلو الأخرى مثل القطار, ويخترن رئيسة لهن تقوم وهي تحاول خطف الأطفال من خلف أمهاتهم, وهي تنشد:كشك وعدس ما أحبو يويا (الردة)يغلي غلوي وأصبو يوياواصبوا بالبواطي يوياواطعموا لخواتي يوياخواتي ما ياكلونو يوياطاف القدح بالمعين يوياواشهدوا يامسلمين يوياحس الجنيجل بالشط يوياوكلمن مايلعب ينبط يوياأطشوا بالبلوعه يوياأيد ججو مقطوعة يوياتقدم لنا هذه الأغنية المصاحبة للعب بنتاً تغني لأخواتها, وتعترف لهُنّ وكأنها تتحدث نيابة عنهن بأنهن لا يحْببنَ هذه الأكلة, لأنها آكلة تطبخ عدة مرات في الموسم, فأصبحن لايحببنها لكثرة طبخها, وهي تشبه ضجرها منها بطفح الماء من معين (حمام العليل), فقد طفح الكيل من كثرة تكرار طبخ هذا النوع من الطعام, وشهدت على ذلك المسلمين, منبهة لهم بصوت الجنيجل بالشط, وتشير إلى الذين لا يلعبون أن يخرجوا من الصف, وما عليها إلا أن تقوم بطش هذه الآكلة في البالوعة, ولا تنس أن تشير إلى ملاحظة أحد الرجال ويدعى (ججوا) ولعله تحريف لـ (جرجي) على أن يده مقطوعة. ولم يجد الباحث من علاقة تربط (ججو) بهذه الأغنية وبهذه الأكلة, فمن الممكن أن يكون صاحب مكينة البرغل التي تجرش البرغل وتصنع منه هذه الآكلة, وقد قطعت يده أو تمنت أن تقطع يده أثناء عملية جرشه البرغل, لذا يمكن القول بأن هذه الأغنية تعد متنفساً حقيقياً لهؤلاء الأطفال.ومن ألعاب البنات الجماعية التي تصاحبها أغنية, لعبة (هيلا يا رمانه) وتتكون هذه اللعبة من عدد من البنات يشكلن دائرة بواسطة تماسكهن من الأيادي, وتضع الواحدة يدها بيد الأخرى, ويتم انتخاب رئيسة تكون وسط الحلقة وتقوم بترديد هذه المقاطع: هيلا يارمانه هيلا يمه (الردة) من هي الزعلانه هيلا يمه سعديه الزعلانه هيلا يمه منهو اليراضيها هيلا يمه أبوها يراضيها هيلا يمه صايغ تراجيها هيلا يمهوتكون اللاعبة الأخرى (الزعلانه) خارج الدائرة, وقد دارت ظهرها عليهن, والبنات الأخريات يدُرن حولها على شكل دائرة, وهكذا حتى تذكر المرددة لهذه المقاطع, أسماء جميع البنات المشاركات في هذه اللعبة, وأخيرا تدخل الفتاة الزعلانة إلى الدائرة, وتشارك البنات في اللعب وهي تردد معهن المقاطع في هذه اللعبة إلى نهايتها وهكذا تستمر اللعبة.والمجال لا يتسع لذكر جميع الأغنيات في جميع المناسبات التي تمر بالأطفال في حياتهم وهذه المناسبات ما هي إلا صور بسيطة تعبر عن مرح الطفولة وتطلعها إلى الحياة. ولكنها عميقة من حيث انتباه الطفل لجوانب الحياة والبيئة التي تحيط به، ومن هنا كانت أهمية دراسة فنون الأطفال (أغانيهم وألعابهم) وذلك بالنسبة للمهتم بالفنون الشعبية؛ لأنها تعبر عن القدرات الإبداعية لقطاع هام من مجتمعنا الجديد ألا وهو الطفل.