19 مايو، 2013
أوضاع الجنود العثمانيين الصحية في الموصل خلال الحرب العالمية الأولى
من المعروف أن الموصل قد رزحت تحت الحكم العثماني كحال بقية أجزاء العراق الأخرى لفترة طويلة من الزمن (1515-1918)، وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كان من الطبيعي أن تدافع الدولة العثمانية عن هذه الولاية وعن أجزاء العراق الأخرى وترسل إليها الجيوش، فأصبحت الموصل ممراً لعبور الجيوش العثمانية إلى أجزاء العراق الوسطى والجنوبية للتصدي للغزو البريطاني للعراق، وبسبب ما تعرضت له المنطقة عموماً والموصل على وجه الخصوص من مجاعات جراء انحباس الأمطار وكثرة الجيوش التي أفرغت أسواقها من السلع الأساسية للحياة، تفشت الكثير من الأمراض والأوبئة التي أصابت سكان الموصل والقوات العثمانية على حد سواء، وقد جاءت هذه المقالة لإلقاء الضوء على الأوضاع الصحية للجيش التركي المقيم في الموصل أو المار عبر أراضيها.بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914غادر الطبيب العسكري العثماني عبد القادر نويان (Abdülkadir Noyan) إلى بغداد ليبدأ عمله في العراق نائباً لرئيس أطباء الجيش السادس في كانون الأول 1915، واستقل القطار من استانبول إلى بوزنطي (Pozantı)، ومن ثم ارتحل من بوزنطي إلى الموصل على ظهر حصان، وأخيراً انطلق من الموصل إلى بغداد على متن كلك، فكان للدكتور عبد القادر نويان فرصة جيدة لمراقبة الأحوال الصحية على طول الطريق بين استانبول وبغداد وكتب الملاحظات التالية في كانون الأول 1915: "وفي الطريق من استانبول إلى حلب والموصل يستطيع المرء أن يلاحظ بسهولة ازدياد عدد حالات الإصابة بالحمى النقطية".كانت الموصل خلال الحرب العالمية الأولى من أهم المراكز الطبية للقوات العثمانية في جبهة العراق بوصفها موقعاً خلفياً لأهم الجبهات العسكرية والمعارك الدائرة بين الجيشين العثماني والبريطاني في وسط وجنوب العراق ومناطق أخرى، ففي عام 1915 اضطرت الحملة الأولى التي تدير عمليات عسكرية في إيران أن تنقل جنودها المرضى معها عندما كانت متوجهة إلى الموصل عبر طريق بوزنطي، حلب، (Telleübyas)، وبسبب عدم وجود تسهيلات طبية على طريق ما وراء حلب، فإن بعض مرضى هذه الحملة قد تُركوا في الموصل وأربيل.وفي نفس السنة كتب الدكتور نويان وجهة نظره القيّمة عن ظروف وأحوال المستشفيات العسكرية في الموصل التي يتمركز فيهاقَطاع من الجيش السادس بيّن فيها أوجه قصورها وعدم كفايتها قائلاً: "إن الوضع في مستشفيات الموصل مروع، فالمرضى كانوا يرقدون على الأفرشةالموضوعة على الأرض واحدة بجنب الأخرى، ولم تُرَتَب بحسب الأمراض، وكانت المستشفيات تعج بالقمل، وقد وجب عليّ الجلوس على تلك الأفرشة لفحص المرضى واحداً تلو الآخر، وكانت أعراض الحمى النقطية واضحة على معظم المرضى، وقد أعددت تقريراً مطولاً من أجل تبليغ المفتشية الطبية الميدانية بالحالة".وبعد أن ازداد عدد الوفيات في صفوف الجيش السادس في الموصل درس الدكتور نويان واقع المستشفى العسكري في الموصل وكانت نتيجة الدراسة عبارة عن مذكرة أرسلها إلى آمر الجيش السادس في شباط 1916، أوضح فيها أن السبب وراء تزايد حالات الوفيات في صفوف الجيش العثماني في الموصل ليس لأن المرضى لم يُعالجوا في مستشفى الموصل، بل لأن الجنود جاءوا سيراً على الأقدام من استانبول أو من أماكن أخرى بعيدة عن العراق، وكان سيرهم تحت الأمطار قد دام لعدة شهور، سيما وأن كل الجنود العثمانيين المنتشرين في الجبهة العراقية لم يصلوا إلى العراق إلا بعد مرور شهرين من المشي، وهذا ما كان له أثره السلبي جداً على حالتهم الصحية، لأن المشي لمسافاتٍ طويلةٍ تحت المطر يخلق بيئة تساعد في ظهور عدة أمراض، على سبيل المثال الفوج السادس كان تعداد جنوده (1200) رجل عندما انطلق من استانبول، وعند وصوله إلى الموصل اضطر إلى التخلي عن نصف رجاله في أماكن مختلفة على طول طريق سير الرحلة، كما بيّن أن السبب الآخر لارتفاع عدد الأموات في المستشفى العسكري هو افتقار المستشفى للكادر الطبي، فأطباء المستشفى كانوا مرضى أيضاً، إذ شاهد أحد الأطباء المدنيين في الموصل في المستشفى يُعالَج من مرض الحمى النقطية (spotted fever)، وأوضح أن نسبة عدد المرضى لكل طبيب هي ألفين تقريباً.وكان لنظافة الجنود تأثير كبير على صحتهم وما يؤكد هذا الرأي، المذكرة المُرسلة من لواء سلاح الفرسان إلى مجموعة معركة العراق في آذار 1916، والتي أكد فيها قدرته في ذلك الوقت على إرسال الجنود إلى الحمامات العامة في الموصل وبغداد، لغسل ملابسهم وأبدانهم، إلا أن هذا كان عديم الجدوى لعدم وجود الصابون، مما أدى إلى انتقال القمل بين الجنود، ولتلافي هذا الأمر حاول لواء سلاح الفرسان شراء بعض الصابون من بغداد إلا إنه لم يفلح لعدم وجود صابون هناك للبيع، وتحت مثل تلك الظروف كان من الطبيعي أن يصعب منع انتشار مرض مثل التيفوس، الذي يُعد من أخطر الأمراض التي تهدد القوات المسلحة العثمانية في العراق وسوريا. وقبل إخلاء بغداد بعد احتلالها من قبل القوات البريطانية كان فيها (8,000) جندي عثماني مريض قد نُقلوا إلى سامراء، وفي بداية العام 1917 استمر عدد الجرحى العثمانيين بالارتفاع بسبب المعارك الجارية، فكان هناك حوالي (800-1000) جندي بين مريض وجريح وجب إيوائهم في بيوت وخيم في مدينة سامراء، على الضفة اليسرى من نهر دجلة، إلا أن الجيش العثماني سرعان ما اضطر إلى الانسحاب من سامراء، مما جعل أمر نقل أولئك الجرحى والمرضى إلى الموصل ملحاً، وفعلاً تم نقلهم للموصل مما أدى إلى تزايد غير مسبوق في عدد المرضى والجرحى العثمانيين، وبلغ عدد أسِرّة مستشفيات الموصل الثابتة والمتحركة (5000) سرير.ومن أجل أن تتجنب الموصل مزيداً من حالات الإصابة بالكوليرا التي ظهرت مؤشرات وجودها في حلب وبوزنطي نشر آمر الجيش السادس في الموصل في حزيران 1917 الأوامر التالية التي ألزم بموجبها الوحدات التابعة له بتطبيقها في الموصل:1- إن الوحدات والجنود القادمين من حلب وبوزنطي يجب أن لا يسمح لهم بدخول مدينة الموصل بشكل مباشر، بل يجب أولاً أن يبقوا تحت المراقبة في المعسكر الذي سيُشَيَد على الضفة اليسرى من نهر دجلة، وهناك يُفحص الجنود المصابين بالإسهال والمشتبه بإصابتهم به.2- إن تلوث ماء نهر دجلة المصدر الوحيد لماء الشرب والاستعمال اليومي، ينبغي تجنبه بإتباع إجراءات ستحدد بالتعاون مع السلطات الطبية المحلية وبلدية الموصل.3- إن المتطوعين في وحدات الجيش والسكان في جوار مدينة الموصل يجب أن يتم تلقيحهم حيثما سُجِلَت الكوليرا.4- يجب أن تتم الفحوصات في وحدات الجيش والمنازل التي اكتشفت فيها الكوليرا، من أجل الكشف عن الأشخاص الحاملين للمرض.وفي تموز 1917 واستناداً على تحليل (4,001) وجه في مختبر الجيش الثابت في الموصل وجدوا أن (293) شخصاً يحملون جرثومة الكوليرا وكان من تلك الحالات (18) جندياً من الفرقة 46التي جاءت إلى الموصل عن طريق حلب، بينما يعود (27) منهم إلى وحدات التجهيز الثابتة التي سلكت نفس الطريق، وثمانية حالات كانت من جنود شركة التلغراف العاملة على الطريق إلى نصيبين و(9) منهم كانوا جنوداً هاربين، و(63) شخصاً منهم كانوا من بين جنود المفارز العسكرية الكثيرة في الموصل والتي كانت في حالة تجوال مستمر بين المحطات العسكرية المختلفة.وعن سبب سوء الأوضاع الصحية للموصل كتب الدكتور نويان تقريراً مفصّلاً عن الأوضاع الصحية في الموصل جاء فيه:"إن أي شخص يلاحظ سكان الموصل والأوضاع البيئية التي يعيشون فيها سيخمن بسهولة أنه لا أحد يعرف معنى الصحة في المدينة، فقد كان الغذاء يباع في أسواق يغطيها الذباب في كل مواسم السنة، والمصدر الوحيد لماء الشرب والاستعمالات الأخرى لكل من السكان المحليين والجنود كان ماء نهر دجلة (الملوّث)، كما أن الكثير من المنازل في المدينة ليس فيها مراحيض، لذلك كان السكان يستعملون الشوارع والسطوح لقضاء حاجتهم، وكان لا يمكن للمرء أن يرى المراحيض أو حُفر المراحيض إلا في بيوت السكان ذوي المستوى التعليمي العالي فقط".وعن الإصابة بمرض الكوليرا يذكر الدكتور نويان أن أول حالات الإصابة بالكوليرا في منطقة الموصل كانت إصابة جندي هارب من الجيش أُلقي القبض عليه في اليوم الثاني من تموز 1916.وعند سؤاله عن كيفية وصول الكوليرا إلى الموصل في تموز 1917 أجاب الدكتور نويان بنوع من التفصيل، بسرده قصة انتقال وباء الكوليرا الذي تفشى في الموصل عام 1917 بقوله: "ان التحقيقات التي تمت في الفرقة 46 أظهرت أن كل الجنود كانوا بصحة جيدة عندما غادرت الفرقة استانبول، وعندما وصلوا إلى طرسوس بطريق البر بدأت تظهر بينهم بعض حالات الإسهال، وقد تُرِكالمرضى في مستشفيات الجيش الكائنة على طول الطريق، ولعدم تسجيل أية إصابات بالكوليرا بين الجنود في تلك المستشفيات، استمرت الوحدات في رحلتها البرية حتى وصلوا درباسية السورية وكانوا قد تركوا العديد من المرضى بالإسهال، فمن كل كتيبة يوجد (60-70) مريض بالإسهال كانوا قد تُركوا ورائهم، ولأن أطباء الجيش في الوحدات لم يتسلموا تقارير عن أي حالة مشخصة للكوليرا من المستشفيات، بقيت إصابات الكوليرا غير ملحوظة، وما أن وصل الفوج (145) من الفرقة المشار إليها أعلاه إلى الموصل، حتى تم كشف حاملي جرثومة الكوليرا بين الجنود الذين لديهم إسهال، وكإجراءٍ احترازي تم فحص كل الجنود لكشف حاملي وباء الكوليرا بينهم، وبذلك تم تجنب كارثة عظيمة بفصل حاملي فايروس الكوليرا عن البقيةوفي عام 1917 مات (8) من أصل (15) من المصابين بالتيفوئيد خلال فترة (12) شهراً، وفي عام 1918 تناقص مجموع مرضى التيفوئيد إلى (2) فقط، على الرغم من أن المستشفيات سجلت الإحصائية أعلاه لحالات التيفوئيد، إلا أن د. نويان كان يرى أن تلك الحالات هي إصابات بمرض التيفوس، لأن وباء التيفوئيد بحسب رأيه كان نادراً بسبب حملة التلقيح الناجحة ضده.وفيما يتعلق بالزحار الأميبي فقد ظهرت نتائج هامة من التحاليل التي أُجريت عن هذا المرض في منطقة بلاد ما بين النهرين عموماً، وفي الموصل أُجريت الفحوصات على قطاع الجيش السادس في عام 1918 في مستشفيات الموصل على (85) مريض بالزحار لديهم أميبيا على وجوههم، فكشفت الفحوصات أن (30) جندياً من أولئك المرضى لديهم الزحار كمرض رئيس، كان من بينهم (20) جندياً من وحدات الرشاشات الثقيلة من الملتحقين حديثاً بقطاع الجيش، كما بينت الفحوصات أن الجنود أصيبوا بالمرض خلال سيرهم لمدة (7-8) يوماً على الطريق الصحراوي بين نصيبين والموصل، إلا أن العشرة الآخرين من المرضى كانوا جنوداً منتشرين مسبقاً في الموصل، وبخصوص الـ(55) مريضاً الآخرين فقد كان مرضهم يتعلق بالزحار الأميبي الذي أُصيبوا به مسبقاً، منهم (18) جندياً أصيبوا بنفس المرض مرة واحدة، و(23) منهم أصيبوا مرتين، و(15) أصيبوا ثلاث مرات، وواحد منهم أُصيب أربع مرات وثلاثة أُصيبوا خمس مرات.