10 سبتمبر، 2013
المجاعات في الموصل أسبابها ونتائجها (200-580هـ/815-1184م)
تعد دراسة الجانب الاقتصادي في الموصل من أهم الموضوعات التي تساهم في فهم الحياة السياسية في المدينة، في حين أن المجاعات من أهم العوامل التي يتأثر بها الوضع الزراعي في المدينة ، فضلاً عن تأثر الحياة العامة فيها، وبالتالي فإن للعوامل الطبيعية أثر كبير في التغير ألمعاشي والطبقي لابناء المدينة، وقد تعرضت مدينة الموصل خلال تاريخها الطويل إلى مجاعات اختلفت في أسبابها ونتائجها وهي:أ-الغلاء:إن مدينة الموصل إحدى المدن التي شهدت مجاعات وأوبئة طوال العصور العباسية وتعددت أسبابها وكان تأثيرها على المدينة في مختلف النواحي. ففي سنة (206هـ/821م) تعرضت الموصل للمجاعة وارتفاع الأسعار وذلك بسبب الفيضان الذي حدث في السنة نفسها، فارتفعت الأسعار وعانى الناس من قلة الغذاء، واستمرت المجاعة إلى سنة (207هـ/822م) وشملت مناطق ومدن أخرى إذ ذكر الازدي أنه في هذه السنة: "ارتفع السعر وغلا بالموصل وسائر بلاد الجزيرة والبصرة والكوفة حتى بلغ الكر نيفاً وثلاثة الآ ف درهم… وكان لا يجتري احد أن يظهر نموذج الطعام،وإنما يخرج الرجل الشيء في كمه فيبيعه سراً،وربما كاله ليلاً خوفاً من الناس والمجاعة التي كانت…"..، يتبين من خلال هذا النص غياب السلطة بشكل أو بأخر وفقدان الأمن،في حين أن عجز السلطة بالقيام بإجراءات تحد من المجاعة كانت غائبة أيضا، وفي نفس الوقت يبدو أن هناك حركة انتقال بين السكان نتج عن تلك المجاعة،وأن الناس بدأت تبحث عن مواطن جديدة،وبذلك من الطبيعي أن تتغير التركيبة السكانية للموصل.يلاحظ من هذا النص أن هذه المجاعة امتدت أكثر من سنة وأثرت على مدينة الموصل فمن الناحية السياسية، كانت السلطة في المدينة التي تعاني أصلاً من مشاكل سياسية والتي كانت تحت حكم الوالي السيد بن انس التليدي ( 202-212هـ/817-827م ) وبالتالي غابت سيطرته على المدينة حتى ان الذي يبيع ويشتري لأحدى السلع يبيعها سراً خوفاً من النهب والسلب،وأن الذي يكيل ما ابتاع يكيله ليلاً وسراً وخوفاً من الناس الذين كانوا يعانون من قلة الموارد الغذائية، فأقترن الدمار الطبيعي مع سوء أدارة المدينة مما أدى إلى اضطراب اقتصادي،وقد أشار النص بإن الأمور قد وصلت إلى غاية السوء وأن الأسعار ارتفعت،كما ذكر الازدي حتى بلغ الكر نيفاً وثلاثة ألاف درهم، ويبدو كذلك أن تأثير هذه المجاعة كان على حركة البيع والشراء أيضاً، التي أصبحت مقتصرة على التجار وأصحاب الأموال وأن شرائهم كان محدوداً مما أثر على اقتصاد المدينة ، وهذا يدل على أن المدينة كانت قسمين قسم من تجار والملاك، وقسم من الفقراء الذي لا يجد ما يسد به رمقه، وبذلك فإن حدوث الفيضان وإهمال وسائل الري يؤدي إلى ارتفاع الأسعار،وقد استمرت أسعار الطعام مرتفعة خلال سنوات (206-209هـ/821- 824م)،كما حدث غلاء سنة (349هـ/960م) وارتفعت الأسعار أيضا،إذ ذكر ابن الأثير انه في هذه السنة : "كان بالبلاد غلاء شديد وكان أكثره بالموصل، فبلغ الكر من الحنطة الفاً ومائتي درهم، والكر من الشعير ثمانمائة درهم "، ويبدوان سبب هذا الغلاء هو فيضان سنة (348هـ/959م ).ب-الجراد:وهناك نمط أخر من المجاعات سببه الجراد، كما حدث سنة (342هـ/953م) حيث شهدت الموصل غلاءً فاحشاً سببه ظهور الجراد فيها الذي بقي انتشاره أيام،مما أدى إلى تلف المحاصيل الزراعية وارتفاع سعرها، ويبدو أن مثل هذه الموجات تؤثر في الأوضاع الاقتصادية وبالتالي ينعكس ذلك على الأوضاع اليومية والاجتماعية لكن آثارها لم تكن بمستوى أثار المجاعة التي استمرت خلال سنوات (206-209هـ/821-824م)، كما ظهر الجراد سنة(621هـ/1224م) وفتك بالمزروعات التي لم يظهر منها الا القليل بسبب قلة الأمطار في تلك السنة مما أدى إلى ارتفاع المواد الغذائية وحدوث مجاعة. جـ – قلة الأمطار والمياه:إن قلة سقوط الأمطار وانعدامها في بعض السنوات تودي إلى حدوث مجاعات، كما حدث في سنة (423هـ/1031م) غلاءً شديداً وزادت الأسعار في الموصل بسبب انحباس الأمطار،وتلف الغلات،وفي سنة (439هـ/1047م) حدثت مجاعة في الموصل فقلت المواد الغذائية بالأسواق بشكل كبير تكاد تكون معدومة، مما أضطر الناس إلى أكل الميتة ويبدو أن سبب ذلك، هو انعدام الأمطار في هذه السنة أو العام الذي قبلها، مما أدى إلى حدوث وباء شديد قضى على كثير من أهالي الموصل مثل ما ذكر ابن الجوزي لكنه عرض أخبار بغداد أكثر مما ذكر عن الموصل، لكن رواية ابن الأثير كانت نسبياً وافية،أما تأثير هذه المجاعة في الموصل فإنها أهلكت كثير من الناس،كما ارتفعت أسعار بعض المواد الغذائية التي يحتاجها الناس، واستمرت هذه المجاعة حتى سنة(440هـ/1048م).د-الأوبئة :شهدت مدينة الموصل خلال مدة البحث انتشار بعض الأوبئة والأمراض التي فتكت في سكانها مما أدى إلى حدوث مجاعات، كما حدث سنة (423هـ/1031م) إذ إنتشر وباء عظيم وهو الجدري،وكثر الموت ليس في الموصل فقط بل في جميع بلاد الشام وخراسان وغزنة وغيرها من المدن،واستمر هذا الوباء لمدة (6) أشهر،إذ أورد ابن الجوزي نصاً يبين ذلك قائلاً:"استمر الجدري في حزيران وتموز وأب وأيلول وتشرين الأول والثاني، وكان في الصيف أكثر من الخريف"، مما أدى إلى هلاك وموت كثير من أهالي الموصل فذكرت بعض المصادر"أحصي بالموصل انه مات به أربعة الآف صبي"، مما يدل انه كان متفشياً في الصغار أكثر من الكبار،وانه مرض ُمعدٍ وانتشر بشكل كبير بالموصل بحيث "لم تخلُ دار من مصيبة لعموم المصائب وكثرة الموت"، في حين نجد بعد سنتين انتشر مرض آخر في الموصل وهو علة الخوانيق سنة (425هـ/1033م) وعلى الرغم من عدم وجود معرفة بمتوسط العمر خلال هذه الفترة،ألا انه يبدو أن مثل هذا المرض قد أثر على متوسطي العمر في المجتمع الموصلي، وأنه كان مرضاً سريع الانتقال فإذا أصاب شخصاً انتقل إلى أفراد أسرته سريعاً،إذ ذكر ابن الأثير أن الدار كانت "يسدُ بابها لموت أهلها"وفي سنة(448هـ/1056م) ظهر وباء آخر وغلت الأسعار فبلغ الكر من الحنطة تسعين ديناراً بعد أن كان نيفا وعشرين ديناراً، ويظهر أن قلة الأمطار هو السبب في غلاء الأسعار وحصول هذه المجاعة التي كان تأثيرها على الفقراء كبيرا حيث عانوا من الغلاء، وقد ذكر ابن الجوزي : "وعدمت الاشربة وفسد الهواء وكثر الذباب فكان يموت في اليوم ألف نفس"،وعم هذا الوباء الحجاز والجزيرة ومصر وغيرها من البلاد(75)، ويبدو أن هذا العدد يدل على كثرة الذين ماتوا بهذا الوباء وأنه انتشر في مساحات واسعة ليس في الموصل فقط بل امتد إلى غيرها من المدن،كما شهدت هذه المدينة سنة(469هـ/1076م) انتشار وباء كان على هامش ما حدث " بالجزيرة والعراق والشام" وقد أدى إلى موت كثير من أهالي الموصل، بحيث بقيت كثير من المحاصيل الزراعية لم تحصد لأنه لم يوجد من يقوم بهذا العمل،فوصف ابن الأثير ذلك بقوله"كان وباء عظيم وموت كثير،حتى بقي كثير من الغلات ليس بها من يعملها لكثرت الموت في الناس"، ويظهر من سياق النص أن ذلك الوباء لم يقتصر على المدينة فحسب بل ان سكان أطرافها كان لهم النصيب الأكبر منه، وبالتالي فإن من أهم نتائج ذلك الوباء هو غياب اليد العاملة، وعدم وجود من يوفر المحاصيل والحاجة اليومية للناس. وفي سنة (575هـ/1179م) انتشرت أمراض كثيرة في الموصل نتيجة المجاعة التي حصلت بها في هذه السنة مثل السرسام، حيث مات فيه كثير من أهالي الموصل، وكذلك مرض السل الذي انتشر سنة (576هـ/1180م) نتيجة مجاعة سنة (575هـ/1179م) وكان الأمير سيف الدين غازي الثاني(565-576هـ/1169-1180م) أصيب بهذا المرض فمات، ويبدو أن ذكر ابن الأثير لهذه التفاصيل يعود لأمرين الأول أنه شاهد عيان وقد تأثر بما حدث من جراء تلك المجاعة، وبالتالي فهو على اطلاع مباشر، والأمر الثاني هو اتصاله بالأسرة الزنكية وفي خدمتها فمن الطبيعي أن يذكر سبب وفاة هذا الأمير.